وسط التباين بين الأزرق الفيروزي للأحواض والأبيض الناصع للصحاري الملحية، يحيي استخراج الليثيوم عند الحدود بين تشيلي والأرجنتين وبوليفيا الآمال، لكنّه في الوقت نفسه يثير المخاوف.
فهذه المنطقة القاحلة في أميركا اللاتينية تختزن محلولاتها الملحية الجوفية 56% من الموارد المكتشفة من هذا المعدن الذي يستخدم في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية التي تُعلّق عليها الآمال في إنقاذ الكوكب من الاحترار المناخي.
فالمعدن الذي تطلق عليه تسمية "الذهب الأبيض" و"نفط القرن الواحد والعشرين" ارتفع سعره من خمسة آلاف دولار للطن في يناير/كانون الثاني 2020 إلى 71 ألف دولار في سبتمبر/أيلول الماضي.
وطريق الليثيوم في "المثلث" الأميركي اللاتيني تبدأ من صحراء أتاكاما، السهل الأسمر والصخري الذي يعد مصدر الليثيوم في تشيلي والذي شكّل في العام الماضي 26% من الإنتاج العالمي.
والمعدن في هذه المنطقة أكثر تشبعاً مقارنة بالبلدان المجاورة من جراء قلّة الأمطار وأشعة الشمس الحادة التي تسرّع تبخّر مياه الأحواض، وهي مرحلة أساسية لاستخراج الليثيوم من المحاليل عالية التشبّع بالملح.
في عام 1979 أعلنت تشيلي الليثيوم "مورداً استراتيجياً" نظراً إلى إمكان استخدامه لغايات نووية، وتولّت استغلاله تجارياً، وقد أدارت خصوصاً منح الامتيازات لشركات خاصة.
حالياً تمتلك شركتان التراخيص للاستغلال التجاري للمعدن في البلاد، هما "إس.كيو.إم" التشيلية و"ألبرميل" الأميركية. وبموجب اتفاق أبرم أخيراً، حُدِّد سقف الضرائب المتوجبة للدولة عن المبيعات بـ40%.
ملايين الليترات من المياه
في الربع الأول، تخطّى الليثيوم النحاس من حيث العائدات الضريبية، علماً بأن تشيلي أكبر منتج للنحاس في العالم، مع ما يقرب من ثلث المعروض العالمي.
لكن استخراج الليثيوم يتطلب ملايين الليترات من المياه يومياً، وعلى الرغم من أن شركات التعدين مجبرة على أن تسدد تعويضات للسكان المحليين، يتخوّف هؤلاء على سبل عيشهم في منطقة غالباً ما تضربها موجات الجفاف.
في عام 2013 كشفت عملية تفتيش لموقع تابع لـ"إس.كيو.إم" أن ثلث أشجار الخروب الشهيرة بجذورها العميقة، قد ماتت. ويقول علماء إن السبب في ذلك شحّ المياه.
وقالت كلاوديا بيريز (49 عاماً) المقيمة في وادي نهر سان بدرو: "نريد أن نعرف على وجه اليقين التأثير الحقيقي لاستخراج الماء من طبقة المياه الجوفية".
في المقلب الآخر من جبال الأنديز، وتحديداً في الأرجنتين، يعبر طريق متعرج البحيرات الملحية في محافظة خوخوي. ومع محافظتي سالتا وكاتاماركا المجاورتين، تشكّل المنطقة ثاني أكبر حقل لليثيوم في العالم.
ومع قلّة القيود المفروضة على استغلاله تجارياً والضرائب التي تقتصر على 3%، أصبحت الأرجنتين رابع أكبر منتج لليثيوم في العالم.
وحالياً هناك حقلان في المنطقة يُستَغلان تجارياً، وتتولى شركات أميركية ويابانية وأسترالية الأمر مع شركة عامة أرجنتينية.
لكن هناك عشرات المشاريع في مراحل نضج متفاوتة تشارك فيها شركات صينية وفرنسية وكورية جنوبية.
والأرجنتين التي تواجه أزمة اقتصادية حادة يفترض أن تتخطى تشيلي على صعيد الإنتاج بحلول عام 2030.
وعبر تويتر دعا محافظ خوخوي خيراردو موراليس، رئيس شركة "تيسلا" للاستثمار في المنطقة عندما اشتكى الأخير في حزيران/يونيو من ارتفاع أسعار الليثيوم.
لكن المجتمعات المحلية تبدي تخوفاً متزايداً، وكتب على لافتة رفعت أخيراً خلال تظاهرة في ساليناس غارنديس الواقعة عند الحدود بين سالتا وخوخوي: "نحن لا نأكل البطاريات. يأخذون مياهنا وحياتنا ويرحلون".
فندق ليثيوم
على مسافة نحو 300 كلم إلى الشمال من خوخوي، تقع سالار دو أويوني في بوليفيا، وهي أكبر مجمّع للملح في العالم يضم ربع الموارد المكتشفة للكوكب.
وتقع هذه الصحراء الملحية في منطقة غنية بالفضة التي شكّلت على مدى قرون محرّك العجلة الاقتصادية للإمبراطورية الإسبانية. على الرغم من ذلك، أكثر من نصف السكان يعيشون في الفقر.
ورغبة منه في الاستفادة من ثروة الليثيوم، أمّم الرئيس اليساري الأسبق إيفو موراليس في بداية ولايته التي امتدت من 2006 إلى 2019 الموارد النفطية وغيرها، ولا سيما الليثيوم. وقال موراليس إن "بوليفيا ستحدد السعر للعالم أجمع"، داعياً بقية دول المنطقة إلى الاقتداء بها.
في ريو غراندي شكّلت تصريحاته بارقة أمل. فهذه المدينة الصغيرة هي الأقرب إلى مصنع ياسيميينتوس دي ليتيو بوليفيانوس "واي.إل.بي"، الشركة العامة التي أسسها الرئيس الأسبق.
مدفوعاً بالتفاؤل، بنى دوني علي فيها فندقاً، وسمّاه "ليثيوم"، لكنه لم يتمكن من تحقيق ثروة منه.
وقال هذا المحامي البالغ 34 عاماً: "مجتمعاتنا منسية. كنا ننتظر تطوراً كبيراً على الصعيد الصناعي والتكنولوجي، وخصوصاً ظروفاً معيشية أفضل.. لكن ذلك لم يحصل".
وبعد سنوات من الركود، أبدت الحكومة اليسارية انفتاحاً على مشاركة القطاع الخاص في البحث عن بدائل للمشروع الأصلي.
وقال الخبير الاقتصادي خوان كارلوس سوليتا، الذي تولى لفترة وجيزة إدارة مصنع "واي.إل.بي" في عام 2020، إن البعض يعتقد أن بوليفيا "ستفوّت فرصة" الليثيوم، مضيفاً: "لا أعتقد أن هذا الأمر سيحصل".
وقال إن السؤال يكمن في معرفة "ما إذا كان استخراج الليثيوم سيعود بالفائدة على البوليفيين".
وبلدان "مثلث الليثيوم" يحدوها الأمل وتتطلّع إلى الاستغلال التجاري لليثيوم في تصنيع البطاريات محلياً. والأرجنتين هي الأكثر تطوراً على هذا الصعيد، وهي تأمل إطلاق مصنع في ديسمبر/كانون الأول.
وقال سوليتا إن "أميركا اللاتينية تمتلك كل المواد الأولية اللازمة لإنتاج البطاريات والسيارات والكهربائية"، وأضاف: "من شأن هذا الأمر أن يعكس إمكانية ملموسة لجعل أميركا اللاتينية الصين الجديدة".
بالانتظار، لا يزال فندق "ليثيوم" شاغراً.
(فرانس برس)