دائماً ما تُثار الشبهات حول جدوى وفائدة المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل وداعميها، فيبدأ المدلسون أولى شبهاتهم بتعيير الشعوب العربية بصغر اقتصاداتها وفقر معظمها؛ ومن ثم محدودية وتفاهة تأثيرها في تلك القوى الاقتصادية العملاقة، وامتداداً لهذا المنطق، تُطرح شبهة ثانية تتساءل عن أسباب عدم مقاطعة السلع التكنولوجية عالية التقنية وما شابهها، وكأن المقاطعة مبدأ لاهوتي، إما أن يُؤخذ كله أو يُرفض كله، وليس ككل شيء في العالم يمكن تطبيقه في الحدود الممكنة، بما في ذلك المبادئ الدينية نفسها التي استوعبت في مأثورها أن "الضرورات تبيح المحظورات".
فإذا لم ينجح ذلك، لجئوا لاتخاذ وضعية الحكيم الذي يشفق علينا من النتائج السلبية للمقاطعة؛ وأنها ممارسة قصيرة النظر سترتد علينا بالضرر بأكثر مما ستفعل بالمُستهدفين منها أساساً، مما يدخل في باب التدليس ابتداءً، كما لا يخرج عن نطاق خطاب الهزيمة الذاتية المستمر منذ أكثر من نصف قرن، والذي يحقّر من جدوى وفاعلية ومصداقية كل ما هو عربي وإسلامي لصالح كل ما هو غربي وأبيض.
وتكشف أي مراجعة لفاعلية المقاطعة الاقتصادية عبر التاريخ مدى جهل ونفاق مناهضيها، فخلافاً للمقاطعة الاقتصادية كإحدى وسائل التحرر الوطني ضد الاستعمار في بعض مراحل الكفاح الوطني للهند ومصر وأيرلندا وغيرها، وكإحدى الأدوات التي استخدمها السود في مواجهة العنصرية بالولايات المتحدة الأميركية في الستينيات، كذا في العديد من البلدان ضد سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الثمانينيات، فقد استخدمها الأوروبيون أنفسهم ضد ألمانيا النازية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، بل واتخذت منذ الستينيات صوراً رسمية في شكل العقوبات الاقتصادية التي تنفذها الولايات المتحدة ضد كل من يخرج على هيمنتها العالمية.
لكن بعيداً عن الأبعاد والآثار العملية والرمزية والإعلامية للمقاطعة كفعل سياسي وتعبوي جامع تحاول من خلاله الشعوب العربية والإسلامية إيصال صوتها، في ظل أنظمة سياسية يغلب عليها العجز حدّ التواطؤ، وكممارسة حياتية يومية تحيي القضية الفلسطينية في قلوب وعقول الأجيال الجديدة، يستدعي استخدام الخطاب الاقتصادي في نقد المقاطعة رداً على ما يتضمّنه من تدليس وأكاذيب، وكشفاً لما وراءه من معانٍ وقوى تمثل طابوراً خامساً في صفوفنا، عن وعي أو حماقة، لا فارق!
أولاً، هل المقاطعة غير فعّالة حقاً؟
أولى الشبهات وأشهرها هي عدم فاعلية حملات المقاطعة لمحدودية التأثير الاقتصادي للعرب، وهو ما يفتقد للمنطق من جهةِ سطحية نظرته للمسألة، وتكذّبه الوقائع من جهة المشاهدات الفعلية.
فأولاً، الاقتصاد الإسرائيلي المُستهدف النهائي بحملات المقاطعة ليس اقتصاداً عملاقاً، بل اقتصاداً متوسطاً في أفضل التقديرات، ويغلب على هيكله قطاع الخدمات بنسبة أكثر من 80%، كما يعتمد بقوة، في قطاعه الأكثر تقدماً بالخصوص، على الشراكات مع الشركات العالمية متعددة الجنسيات والعلامات التجارية الكبرى، التي صنعت الجانب الأكبر من الطفرة الظاهرة في حجم ونوعية الناتج الإجمالي الإسرائيلي.
لهذا فكل أثر سلبي ترتّبه المقاطعة على هذه الكيانات، مهما صغر بالنسبة لها في البداية، فإن أثره التراكمي سيكون معتبراً كمّياً والأهم كيفياً من جهة، كما سيكون مؤثراً على إسرائيل نفسها بحكم صغرها النسبي من جهة أخرى، فلم يقل دعاة المقاطعة يوماً إنهم يستهدفون إضعاف الاقتصاد الأميركي أو الاقتصادات الغربية الكبرى بمقاطعتهم، فهذا بالفعل هدف أكبر بكثير من قدرة فعل طوعي فردي كالمقاطعة، بل حددوا أهدافهم بإسرائيل والكيانات الداعمة لها، وهذه أهداف أصغر وأكثر واقعية بكثير، خصوصاً الشركات التي تستثمر المليارات في الأسواق العربية، وتحرّكها أساساً الاعتبارات الاقتصادية لا السياسية، يؤكد ذلك الإعلانات المتتالية من تلك الشركات -بمجرد بروز دعوات المقاطعة- بحيادها وعدم انحيازها لأي طرف فيما تصفه بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتراجع بعض الشركات عن شراكات تجارية وعقود رعاية لأندية إسرائيلية، وكل ذلك فقط في نطاق أقل من شهرين من دعوات المقاطعة، وبينما لم تتسع دائرة التعاطف العالمي معها لأقصى إمكاناتها الممكنة بعد.
وهكذا فجزء جوهري من الأهمية النسبية لأثر المقاطعة هو محدودية حجم الاقتصاد الإسرائيلي نفسه وهشاشته الهيكلية واعتماديته الكبيرة على علاقاته الخارجية، تلك هي نقاط الضعف التي تستهدفها المقاطعة، التي يجب ألا تقتصر على مجرد استهداف الأرباح المباشرة لداعمي إسرائيل، بل يجب أن تتسع نطاقاً لاستهداف عزل إسرائيل تجارياً واستثمارياً بالأدوات المادية والمعنوية المختلفة، خصوصاً مع الفرصة التاريخية السانحة المُتمثّلة في انكشاف أكاذيب السردية الصهيونية على خلفية تصاعد الإجرام الإسرائيلي؛ بشكل يجعلها شريكاً سيئ السمعة يحسن الابتعاد عنه.
جزء جوهري من الأهمية النسبية لأثر المقاطعة هو محدودية حجم الاقتصاد الإسرائيلي نفسه وهشاشته الهيكلية واعتماديته الكبيرة على علاقاته الخارجية
ويمكن أن تكون شعوب المنطقة الأوروبية أبرز المُستهدفين في هذه المرحلة؛ فهي أكثر وعياً بحقائق تاريخ المنطقة والحق الفلسطيني من الشعب الأميركي، كما أنها ثاني أهم قوة استهلاكية في العالم، ولها أهميتها التاريخية في دعم إسرائيل اقتصادياً وتكنولوجياً، ما أكده أحد وزراء الاقتصاد الإسرائيليين بقوله "إن لم نكن قادرين على التصدير إلى أوروبا؛ فإن مصيرنا الموت"، في سياق تعليقه على أهمية العلاقات الاقتصادية مع ألمانيا، ومساهمتها في فتح أبواب أوروبا أمام الصادرات الإسرائيلية، ومنها عضويتها في السوق الأوروبية المشتركة عام 1975.
جُملة القول، إن طرح فاعلية المقاطعة من زاوية التأثير في مُجمل الاقتصادات الغربية، وليس الشركات المعنية بها والاقتصاد الإسرائيلي فقط، هو من قبيل خلط الأوراق الخبيث الذي لا يخلو من سوء نية صريح.
ثانياً، تؤكد التجربة العملية جوهرية الأثر الاقتصادي للمقاطعة، مهما صغر نطاقها المكاني والزماني، فحسب تقرير لمؤسسة راند الأميركية عام 2015، أدت حملة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل بين عامي 2013 و2014، والتي كانت أضيق نطاقاً وفاعلية بكثير من حملة المقاطعة الحالية، إلى خسارة تراكمية بلغت 15 مليار دولار تقريباً؛ ما أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للفرد في إسرائيل بنسبة 3.4%.
الخسائر التراكمية لإسرائيل من المقاطعة العربية خلال الفترة من 1945-1999 بلغت نحو 90 مليار دولار، وهو رقم بالغ الضخامة بأسعار اليوم
ولتقييم مدى جوهرية هذه النسبة، فيكفي أن نعرف أنها تُعادل تقريباً الأثر الاقتصادي المُقدر للحرب الروسية الأوكرانية في بعض الدول الأوروبية والآسيوية خلال عام كامل، كما أشار تقرير لمنظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل بنسبة 46% بين عامي 2013 و2014 (مُقارنة بنسبة 16% انخفاض في المتوسط العالمي في السنة نفسها)؛ ما فسّرته دكتورة روني مانوس إحدى المشاركين بالتقرير، حرفاً ولفظاً، بالحرب والمقاطعة معاً.
كما تشير تقديرات أشمل، لمكتب المقاطعة العربية بدمشق، إلى أن الخسائر التراكمية لإسرائيل من المقاطعة العربية خلال الفترة من 1945-1999 بلغت نحو 90 مليار دولار، وهو رقم بالغ الضخامة بأسعار اليوم، وبالنسبة لحجم الاقتصاد الإسرائيلي وقتها، كما يتجاوز المعونات الألمانية لإسرائيل كاملة خلال الفترة نفسها تقريباً.
ثالثاً: لا يتعلّق الأمر بالآثار المباشرة للمقاطعة وحدها، فهي أساساً موقف سياسي قبل أن تكون موقفاً اقتصادياً، لهذا فهي تمتد -بأثرها الدعائي والسياسي- من الأثر التجاري المباشر على أرباح سلع وخدمات الشركات موضوع المقاطعة في الأسواق العربية، إلى الأثر الاستثماري غير المباشر على قرارات الشركات المختلفة بتقليص أو تجميد أعمالها أو حتى الخروج نهائياً من الأسواق العربية والإسرائيلية على حد سواء، وبالمثل على حوافز الاستثمار الأجنبي الجديد القادم لإسرائيل، الذي ستخيفه قطعاً البيئة المعادية، ومخاوف امتداد المقاطعة لمستوى أكثر جذرية باستهداف منتجات أي شركة دولية تعمل بإسرائيل، وهو ما يجب أن يكون المرحلة التالية الأكثر شمولاً من حملات المقاطعة.
وتسجّل حركة مقاطعة إسرائيل BDS على موقعها الرسمي (bdsmovement.net) تحقيق نجاحات فعلية على هذا الصعيد، حيث انسحبت بعض الشركات الأوروبية الكبرى، كشركات فيوليا Veolia وأورانج Orange وسي آر اتش CRH من السوق الإسرائيلي تحت ضغط الحملات ضدها، على خلفية تورطها في الانتهاكات الإسرائيلية، كما تخارجت من مشاريع بنية تحتية في المستعمرات الإسرائيلية فاقت قيمتها 20 مليار دولار.
ثانياً، هل تضرّنا المقاطعة فعلاً؟
الشبهة الثانية التي انتشرت مؤخراً في مصر خصوصاً، على خلفية أوضاعها الاقتصادية الصعبة، هي دعوى أن المقاطعة تضرّ بالاقتصاد الوطني، بتسبّبها بخسائر لشركات محلية أساساً، وتشريدها عمالة وطنية وما شابه، ومشكلة هذا الطرح كالعادة هو قصر نظره الشديد، فهو نفسه الطرح الشهير خلال فترة ثورة يناير 2011 بضرورة الحفاظ على الاستقرار بحجة الأثر السلبي على عجلة الإنتاج والاقتصاد.
وهو خطاب دائم للمصالح الاقتصادية الريعية والتجارية، التي تمثل أساساً أكبر ورم سرطاني تعانيه مصر، والمتشابك مع سرطانها البيروقراطي (الذي أشرنا له في مقال سابق)، تلك المصالح التي تتشابك كذلك مع رؤوس الأموال الأجنبية، وتقوم بأدوار السمسرة الطفيلية معها على حساب الاقتصاد الوطني، ونادراً ما تعمل بأي قطاعات إنتاجية حقيقية، بل تتمركز في قطاعات التجارة والخدمات الاستهلاكية المتضخمة باقتصاد فقير الإنتاج محدود التصنيع.
القطاع التجاري والخدمي المتضخم، والذي تحدّى الدولة عبر غرفته التجارية، حينما حاولت تنظيمه أوائل فترة الانفتاح، هو رأس جسر للمصالح الغربية في جسدنا الاقتصادي
وبينما تعاني مصر من فاتورة واردات ضخمة وصلت كمتوسط عام لنحو ثلاثة أضعاف صادراتها خلال نصف القرن المنصرم، بفعل وعبر هذه الطفيليات السمسارية، التي ساهمت بقوة في كبح الصناعة الوطنية، بل ولعبت دوراً متعمداً خبيثاً في مرحلة الانفتاح في ضرب المنتجات الوطنية لصالح المنتجات المستوردة (كممارسات التهريب الشهيرة، بل وإخفاء المنتجات المحلية بالمخازن وما شابه من روايات).
فالواقع أن هذا القطاع التجاري والخدمي المتضخم، والذي تحدّى الدولة عبر غرفته التجارية، حينما حاولت تنظيمه أوائل فترة الانفتاح، هو رأس جسر للمصالح الغربية في جسدنا الاقتصادي؛ وليس من المفاجئ على الإطلاق التقاء مصالحه مع مصالح رأس الجسر نفسه في جسدنا الجيوسياسي، وتبنيه خطاباً كهذا لا يبالي سوى بمصالحه الضيقة قصيرة الأجل، التي يجيد تغليفها بدعاوى مصلحة الاقتصاد الوطني الذي يدمره يومياً، وبتعاطفه الكاذب مع العمالة الفقيرة التي يعطيها أسوأ متوسطات رواتب في المنطقة العربية كلها تقريباً.
الحقيقة أن خسارة الشركات الدولية موضوع المقاطعة في أسواقنا المحلية، خصوصاً العاملة بالتجارة والخدمات، هو مكسب استراتيجي للاقتصاد القومي؛ إذ يعيد توزيع الحصص السوقية لصالح المنتجين المحليين على حساب المستوردين والمستثمرين الأجانب (ونموذج سبيروسباتس بديلاً عن الكوكاكولا والبيبسي شاهد قوي)، كما قد يساهم في تقليص هذا القطاع المتضخم؛ بما يوجّه الاستثمارات لقطاعات أكثر إنتاجية في الأجل الطويل، وربما في سياق ذلك يرفع معدلات الادخار بخفض الطابع الاستهلاكي الذي لا يزال غالباً على بعض قطاعات الطبقة الوسطى وما فوقها؛ بسبب هوسها المفرط باستيراد أنماط الاستهلاك الغربية المُنتجة في سياق اقتصادات أكثر ثراءً.
ثالثاً، أليس "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"؟!
النقطة الأخيرة، هي أنه بفرض حتى إن صحّت دعاوى "النيران المرتدة"، أي ارتداد المقاطعة علينا بخسائر اقتصادية، وهي مُحتملة في الأجل القصير بالطبع، فهي مع ذلك مقبولة تماماً كمساهمتنا المتواضعة في دعم القضية الفلسطينية التي تمثل قضية كل العرب، ليس فقط من باب أخوة الدم والدين والإنسانية، بل كذلك باعتبارها قضية تحرّر وطني للمنطقة بمُجملها، ذلك التحرّر الذي يمثل الأساس المطلق والقاعدة النهائية لأي انطلاق اقتصادي أو حضاري لها.
فالاقتصاد لا يُختزل في المكاسب والخسائر المالية والتجارية قصيرة الأجل، بل يتصل أساساً بمُجمل الوجود الاستراتيجي للتشكيل الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع، ما يوافقه القول الشهير للخميني في نقد هذا المفهوم ضيق الأفق للاقتصاد: "الاقتصاد للحمير"، والذي تصدّقه الممارسات الغربية نفسها في سياقات صراعاتها الاستراتيجية، حيث تؤخر المصالح الاقتصادية المباشرة قصيرة الأجل أحياناً لصالح المصالح الجيوسياسية؛ كون الأخيرة غالباً ما تشمل مصالحاً اقتصادية طويلة الأجل.
وأخيراً، أليس الغرب، الذي يعبده أصحاب هذه الدعاوى ويتبعونه ولو لجحر ضبّ، هو نفسه صاحب القول الشهير "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"؟