تشهد أوكرانيا منذ نحو عام ونصف عام حرباً شرسة بين قواتها والقوات الروسية التي تناصبها العداء أيضاً الولايات المتحدة وأوروبا المساندتان لكييف وغيرهما من دول العالم. حرب ينظر إليها الكثير على أنها بمثابة الحرب العالمية الثالثة.
ورغم ذلك يشهد الاقتصاد الأوكراني صموداً ملحوظاً في مواجهة الأزمات والتكاليف الدفاعية والمالية الباهظة، وشهد النشاط الاقتصادي في البلاد انتعاشاً قوياً في الربع الأول من العام الجاري، ولم تفقد عملتها سوى نحو 30% من قيمتها في عام 2022، وخلال ذروة الحرب الدائرة.
بل شهدت عملتها استقراراً ملحوظاً خلال الأشهر الأخيرة، مع تدفق السيولة النقدية على موازنة كييف، ومواصلة تصدير الحبوب، حيث صدرت البلاد نحو 46 مليون طن من الحبوب خلال الموسم الجاري وحتى أول من أمس الأربعاء.
رغم الحرب الروسية الشرسة يشهد الاقتصاد الأوكراني صموداً ملحوظاً في مواجهة الأزمات والتكاليف الدفاعية والمالية الباهظة
واجتاز قطاع الكهرباء الحيوي في أوكرانيا محنته الصعبة، وأعلنت السلطات إمكان استئناف تصدير الطاقة إلى دول الاتحاد الأوروبي بعد توقّفها لمدة 6 أشهر بإجمالي 400 ميغاواط، وبالتالي مواصلة جني عائدات ضخمة من وراء تصدير الكهرباء للقارة المتعطشة للطاقة.
وفي المقابل، نجد في منطقتنا العربية دولاً كثيرة مستقرة سياسياً وأمنياً، ورغم ذلك تشهد تهاوياً في عملاتها الوطنية، وتضخماً غير مسبوق في الأسعار، وتعثراً مالياً، وزيادات قياسية في معدلات البطالة والفقر والفساد والعشوائيات، وهروب الأموال والاستثمارات، وارتفاعاً أيضاً في عدد المرتمين في أحضان الدائنين الدوليين، والخاضعين لشروط المقرضين المجحفة والمذلة.
يوم 24 فبراير/ شباط 2022 غزت روسيا أوكرانيا، وشنت القوات الروسية حرباً غير مسبوقة على جارتها بهدف ابتلاعها خلال 48 ساعة، ولا تزال الحرب مستمرة، وعلى أشدها.
حرب استهدفت روسيا عبرها القضاء على كيان الدولة الأوكرانية كاملة وجيشها واقتصادها وعملتها وتخريب قطاعها الزراعي والصناعي والإنتاجي، وتدمير بنيتها التحتية.
ورغم الكوارث والخسائر الفادحة الناتجة من الغزو الروسي، أكد صندوق النقد الدولي في تقرير حديث أن الاقتصاد الأوكراني يظهر "صموداً ملحوظاً" في أعقاب الهجمات الروسية على البنية التحتية ومحطات إنتاج الكهرباء والمياه وغيرها.
كما أن نظام الطاقة الحيوي تعافى بسرعة من الهجمات على البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا، وأن الدولة تشهد استقراراً في أسواق الصرف الأجنبي وتوافراً في الدولار واليورو، وأن التضخم الذي اشتعل بعد الحرب بدأ بالانخفاض بشكل حاسم، وأنّ من المتوقع أن يتعزز الانتعاش "مع تكيف الاقتصاد تدريجياً مع ظروف الحرب".
الصورة ليست وردية، فالقوات الروسية نجحت في تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية لأوكرانيا، وهدم المصانع ومحطات الطاقة والجسور، ووضعت يدها على الموانئ
بل إن رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في أوكرانيا، غافين غراي، خرج علينا بتصريح لافت قبل أيام قال فيه إن صمود الاقتصاد الأوكراني في وجه عاصفة الحرب واكبه أيضاً تراجع في معدل غلاء الأسعار، مع استقرار في قيمة العملة الأوكرانية على الرغم من الاضطراب الهائل للحرب.
الصورة بالطبع ليست وردية، فالقوات الروسية الغازية نجحت في تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية لأوكرانيا، وهدم المصانع ومحطات الطاقة والجسور، ووضعت يدها على الموانئ، وأثرت الحرب سلباً وبقوة في إنتاج أوكرانيا من المحاصيل الزراعية، وقلصت صادراتها من الحبوب بسبب محاصرة الموانئ الأوكرانية الواقعة على البحر الأسود.
وسبّبت الحرب أيضاً حدوث تأثير اقتصادي واجتماعي مدمر في أوكرانيا، وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 30% خلال عام 2022، وتشريد أكثر من ثلث السكان، وتزايد عدد الضحايا المدنيين، وتدفق آلاف اللاجئين إلى الدول المجاورة.
ورغم عشرات المليارات من الدولارات المتدفقة من الغرب على أوكرانيا، وقرار صندوق النقد الدولي منح كييف قرضاً بقيمة 15.6 مليار دولار مدته أربع سنوات، في إطار حزمة عالمية بقيمة 115 مليار دولار لدعم الاقتصاد الذي يواجه هجوماً روسياً مستمراً منذ 15 شهراً، إلا أن الدين العام ارتفع بصورة ملحوظة، وزاد العجز المالي بسبب ضخامة الإنفاق الدفاعي والأمني الإضافي.
لم تشهد عملة أوكرانيا انهياراً يشبه ما حدث لعملات دول كثيرة في المنطقة، وفي مقدمتها عملات لبنان وسورية والسودان واليمن ومصر والعراق
ورغم كل تلك المؤشرات، لم تشهد عملة أوكرانيا انهياراً يشبه ما حدث لعملات دول كثيرة في المنطقة، وفي مقدمتها عملات لبنان وسورية والسودان واليمن ومصر والعراق، ولم تعانِ الدولة التي تخوض حربا شرسة ضد روسيا من أزمة غذائية ونقص في الخبز كما يحدث في تونس حالياً.
بل العكس هو ما حدث حيث تواصل أوكرانيا تصدير الحبوب لدول العالم باعتبارها منتجاً رئيسياً للقمح والذرة والشعير، وتشهد الأسواق وفرة في السلع، كما تواصل تصدير الكهرباء وغيرها.