يعرقل الوضع السياسي في تونس إمكانيات حصول البلاد على التمويلات الأجنبية أو جلب الاستثمارات، بينما يزداد الضغط على الموازنة العامة التي تشكو من عجز قياسي وشحّ القروض الخارجية بسبب تأخر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وتواجه حكومة نجلاء بودن الأبواب الموصدة من مؤسسات الإقراض الدولية والسوق العالمية التي تضع تونس على لوائح البلدان المهددة بالتعثر المالي والتخلّف عن سداد القروض، فيما تزيد العزلة الخارجية التي تعيشها تونس من تعكّر وضعها المالي.
وما يفاقم أزمات تونس، تصاعد التوتر الداخلي والصراعات السياسية، وآخرها إعلان الاتحاد العام للشغل تنظيم إضراب عام، احتجاجاً على سياسات السلطة الاقتصادية، ودفاعاً عن حقوق الموظفين.
وينتقد خبراء اقتصاد ومالية ما آلت إليه الأوضاع في الأشهر الأخيرة وتواصل عزلة تونس عن محيطها الخارجي، معتبرين أن السياسة الخارجية لم تعد تخدم الاقتصاد الوطني وتهدد بعدم تحصيل تونس لاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
مخاوف من الموقف الأوروبي
زادت المخاوف من موقف أوروبي صارم إزاء تونس بعد اعتراض الرئيس قيس سعيّد على تقرير لجنة البندقية بشأن الاستفتاء المرتقب، بسبب ما اعتبره تدخلاً في الشأن الداخلي.
وعقب تقرير لها انتقد إجراء استفتاء على دستور جديد في تونس، دعا الرئيس التونسي، الاثنين الماضي، وزير الخارجية التونسي عثمان الجارندي، إلى تعليق عضوية البلاد في لجنة البندقية وطرد ممثليها.
ولجنة البندقية هي "اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون"، وهي هيئة استشارية لمجلس أوروبا، تضم خبراء مستقلين في مجال القانون الدستوري، وتضم اللجنة 61 عضواً من الدول الأوروبية، وعدداً من الدول الأخرى، على غرار الأرجنتين، والجزائر، وكندا، والبرازيل، والولايات المتحدة، واليابان، وتونس، وغيرها.
وتونس المهددة بالإفلاس لم تتمكن بعد من تعبئة موارد الاقتراض الخارجي حسب بنود الميزانية، بسبب عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن تمويل بقيمة 4 مليارات دولار، كما ينتظر باقي الشركاء الماليين مآل المفاوضات مع الصندوق.
ويرى المستشار الاقتصادي السابق للحكومة، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، عبد السلام العباسي، أن السياسة الخارجية للبلاد حالياً لا تخدم الاقتصاد والاستثمار، معتبراً أن "التهجّم" على الشركاء الاقتصاديين لا يخدم برامج إنقاذ الاقتصاد.
وقال العباسي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن الدعم السياسي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مهمان جداً لتونس من أجل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى أن البلاد في حاجة أكيدة لقروض خارجية لتمويل الموازنة وضخ أموال كبيرة في الاقتصاد لإنجاح الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي.
وأضاف: "نعم، الاتحاد الأوروبي سيسعى لضمان الحد الأدنى من الاستقرار في تونس، دفاعاً عن مصالحه في البلاد، غير أن التقبّل الأوروبي للسياسات التونسية له حدود".
وأفاد المستشار الحكومي السابق بأن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يملكان مفاتيح الدعم السياسي لدى مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، ما يطلب مواقف تونسية متزنة لضمان التمويل.
وفي وقت سابق، قال سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، ماركوس كورنار، إن الاتحاد مستعد لتقديم تمويل لتونس بقيمة 4 مليارات يورو (نحو 4.5 مليارات دولار)، غير مشروط بتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، من بينها مليار يورو في إطار برامج ثنائية مع الحكومة ستوجه للتعليم والقطاعات الخدماتية والاجتماعية.
وأكد كورنار في حديث لإذاعة "موزاييك" المحلية أن "الاتحاد الأوروبي جاهز لاستثمار 3 مليارات يورو في تونس، في الفترة الممتدة بين 2022 و2027، مشيراً إلى أن الاهتمام سيكون بقطاعات الطاقات البديلة والاقتصاد الأخضر، إلى جانب قطاع الاتصالات والرقمنة"، ولكن سيكون ذلك بشروط سياسية، أهمها إعادة الديمقراطية.
ويرى العباسي أن تونس كانت ما قبل 25 يوليو/ تموز تفاوض الصندوق من أجل برنامج تمويل يتطلّب إصلاحات اقتصادية، غير أن حاجاتها الحالية توسعت بسبب الظرف السياسي والاجتماعي، حيث أصبحت البلاد بحاجة إلى مخطط مارشال من أجل إنقاذ الاقتصاد، مشيراً إلى أن التمويلات الأوروبية مهمة جداً للاستثمار.
وأكد المتحدّث أن السياسات الداخلية والخارجية التي اعتمدتها سلطة ما بعد 25 يوليو لتحريك الوضع الاقتصادي وتحفيز الاستثمار كانت خاطئة، وسببت عزلة للبلاد، موضحاً أن البنك المركزي التونسي استنفد كل الحلول الممكنة لتوفير التمويلات الخارجية.
وعلى مدى الأشهر التسعة الماضية، واصل الرئيس التونسي توجيه سهامه نحو شركاء تونس الماليين ووكالات التصنيف الائتماني تحت عنوان الدفاع عن السيادة الوطنية، غير أن الإجابات غالباً ما تأتي في شكل ردود فعل سلبية تزيد من صعوبات الاقتصاد المحلي وقدرته على تعبئة الموارد من الخارج، حسب مراقبين.
"أمك صنافة"
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الثاني قلّل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، من أهمية التصنيفات التي تصدرها وكالات التصنيف الائتماني، مشبهاً هذه المؤسسات بـ"أمك صنافة".
وأضاف: "تحولت بعض المؤسسات إلى "أمك صنافة"، أصنفك وأرقمك، يريدوننا أن نستمع إلى كلامهم (نطبق إملاءاتهم)".
و"أمك صنافة" عنوان لكتاب في فنون الطبخ التونسي.
وفي مارس/ آذار الماضي خفضت وكالة التصنيف الدولية "فيتش رايتنغ" ترقيم تونس السيادي من B سلبي إلى CCC، مع آفاق سلبية، وهو التخفيض الحادي عشر لتصنيف البلاد من الوكالات الدولية منذ عام 2011.
وقالت الوكالة في بيان لها إن التخفيض يعكس مخاطر على السيولة المالية الخارجية المتزايدة، في ظل التأخير المتزايد في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي.
ولا تقلّ حدة التوتر الداخلي في تونس عن التوتر الخارجي بعد أن وجه سعيد سهامه أيضاً تجاه أهم شريك اجتماعي له، وهو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يملك آليات تحريك الشارع والمنظمات العمالية الكبرى.
معركة اتحاد الشغل
وتحتاج تونس لتعبئة الموارد المالية اللازمة إلى توافق في الآراء مع الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، من شأنها أن تطلق تمويل صندوق النقد الدولي وتدعم موقف التمويل الخارجي للبلاد.
وقال المتحدث الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، سامي الطاهري، أن للمنظمة رؤيتها الخاصة في الإصلاحات، وهي مستعدة لنقاشها مع الحكومة التي تنفرد بالرأي بشأن برنامج الإصلاح وتتكتم على تفاصيله.
أفاد الطاهري في تصريح لـ"العربي الجديد" بأن الاتحاد العام سيمضى قدماً في كل الخطط التي يراها صالحة من أجل الدفاع عن مصلحة التونسيين، بما في ذلك الإضراب العام في القطاع الحكومي، معتبراً أن التفرد بالرأي وغلق أبواب الحوار يزيدان من عزلة البلاد داخلياً وخارجياً.
تحتاج تونس لتعبئة الموارد المالية اللازمة إلى توافق في الآراء مع الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية
واعتبر الطاهري أن السياسة هي موازين قوى وليست نيات، وهو ما يتطلب توازناً في البحث عن المصلحة الفضلى للبلاد، بحسب قوله.
وأعلن الاتحاد العام التونسي للشغل، الثلاثاء الماضي، أن 159 مؤسسة ومنشأة حكومية ستنظّم إضراباً عاماً يوم 16 يونيو/ حزيران القادم، تنفيذاً لتوصيات الهيئة الإدارية للاتحاد، وذلك احتجاجاً على تنصل الحكومة من مبدأ المفاوضات حول الزيادة الدورية في الرواتب وترميم القدرة الشرائية للموظفين.
ويأتي قرار الإضراب العام الذي نبّه إليه الاتحاد العام التونسي للشغل على خلفية تباطؤ الحكومة في فتح جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية لتمكين الموظفين من تعديل الأجور على امتداد السنوات الثلاث القادمة، فضلاً عن مطلبه بإشراك النقابات في عملية الإصلاح للمؤسسة الحكومية التي تنوي الحكومة تنفيذها بتوصيات من صندوق النقد الدولي.
ولا تزال التوترات حول الاستحقاقات السياسية المستقبلية تعرقل التوصل إلى اتفاق، ما يزيد من صعوبة دخول تونس في برنامج صندوق النقد بنهاية الربع الثالث من السنة الجارية.
وعلى الرغم من المخاطر المالية والسياسية المتزايدة، اعتبرت وكالة "فيتش" للتصنيف في تقرير صدر بداية الأسبوع الحالي أن تقديم تونس خطة إصلاح ذات صدقية إلى صندوق النقد الدولي، سيساعد على صرف قروض كبيرة من الدائنين بحلول نهاية العام.