استمع إلى الملخص
- شهدت كوريا الجنوبية تحولًا اقتصاديًا جذريًا في أواخر الثمانينيات مع بدء الحياة الديمقراطية، مما ساهم في تعزيز سيادة القانون والشفافية وجذب الاستثمارات الأجنبية، وبرزت شركات مثل سامسونغ وهيونداي عالميًا.
- استثمرت كوريا في التعليم والبحث والتطوير، مما ساعد على التحول نحو الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة، وبحلول 2023 تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي 1700 مليار دولار، مما يعكس نجاحها الاقتصادي.
في الستينيات، كان حجم الاقتصادين المصري والكوري الجنوبي متقاربًا نسبيًا. ووفقًا لدراسة مقارنة لمحددات التنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية ومصر منذ الستينيات حتى الثمانينيات، كان هناك تقارب في أساليب التنمية الاقتصادية المتبعة ومصادر النمو الاقتصادي بين الدولتين.
وفي عام 1960، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لمصر حوالي 4 مليارات دولار، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية حوالي 3.9 مليارات دولار، ما يشير إلى تقارب حجم الاقتصادين خلال تلك الفترة، في وقت كان عدد السكان في البلدين نفسه تقريباً (حوالي 26 مليون نسمة).
ولكن بدءًا من أواخر السبعينيات، شهدت كوريا الجنوبية نموًا اقتصاديًا سريعًا نتيجة لسياسات التصنيع والتصدير، مما أدى إلى زيادة كبيرة في ناتجها المحلي الإجمالي، بينما واجهت مصر تحديات اقتصادية خلال نفس الفترة، فتباطأ نموها الاقتصادي.
ومع بدء الحياة الديمقراطية في كوريا الجنوبية في أواخر الثمانينيات، شهد الاقتصاد الكوري تحولًا جذريًا أسهم في نقل البلاد من مرحلة الاقتصاد الناشئ إلى أحد أكبر الاقتصادات العالمية. وكان هذا التحول مدعومًا بجملة من التطورات السياسية والاقتصادية التي أحدثت تأثيرًا عميقًا على جميع القطاعات، حيث ساعد الانتقال الديمقراطي في تعزيز سيادة القانون، والشفافية في صنع السياسات الاقتصادية، مما أدى إلى بيئة أكثر عدالة ومساءلة.
وتقول مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية الشهيرة إن تقليص سيطرة الحكومة المركزية على الاقتصاد في ذلك الوقت لمصلحة سياسات تدعم المنافسة الحرة وتشجع القطاع الخاص ساعد على الابتكار والتطور.
تبنت كوريا الجنوبية نموذج اقتصاد السوق الحر بشكل أكثر شمولية، وهو ما أتاح للشركات المحلية فرصًا أكبر للنمو العالمي. وساعد هذا التحول في جذب استثمارات أجنبية مباشرة، وتعزيز التصدير كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي. وخلال هذه الفترة، ازدهرت شركات مثل سامسونغ وهيونداي وإل جي، التي تحولت من شركات محلية إلى علامات تجارية عالمية رائدة، فساهمت في زيادة الصادرات التي أصبحت ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي، وأصبحت كوريا الجنوبية واحدة من أكبر الدول المصدرة في العالم.
استثمرت الحكومة الديمقراطية بشكل مكثف في التعليم والبحث والتطوير، إدراكًا منها لأهمية رأس المال البشري عنصراً أساسياً في التنمية، فأطلقت برامج طموحة لتحسين النظام التعليمي وإعداد جيل قادر على قيادة التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة. وزادت الحكومات المتعاقبة، بدعم من المؤسسات التشريعية المنتخبة، من الإنفاق على البحث والتطوير، مما ساعد كوريا الجنوبية على أن تصبح مركزًا عالميًا للابتكار التكنولوجي. وبرزت كوريا كقوة في مجالات الإلكترونيات وأشباه الموصلات، وهي قطاعات تُعتبر الآن حجر الزاوية في الاقتصاد الكوري.
أيضاً كان التوجه نحو التصنيع المتقدم من أبرز نتائج هذا التحول، حيث انتقل الاقتصاد الكوري من الاعتماد على الصناعات الخفيفة مثل النسيج إلى الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة. وأصبحت كوريا الجنوبية لاعبًا رئيسيًا في صناعة السيارات وبناء السفن، وحققت تقدمًا كبيرًا في تطوير تقنيات المعلومات والاتصالات، وساهم هذا التنويع في تعزيز مرونة الاقتصاد الكوري.
وتقول "ذي إيكونوميست" إن النمو الاقتصادي السريع الذي شهدته كوريا خلال التسعينيات كان نتيجة مباشرة للإصلاحات الهيكلية التي أدخلتها الديمقراطية، حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي أكثر من 8% في تلك الفترة، مما رفع مستوى المعيشة وزاد من دخل الفرد بشكل كبير. وانضمت كوريا الجنوبية إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في عام 1996، وهو ما مثل اعترافًا عالميًا بنجاحها الاقتصادي وقدرتها على المساهمة في الاقتصاد العالمي. وتقول بعض المصادر إن الاقتصاد الكوري نما بمعدل سنوي متوسط يتجاوز 5% في الأعوام الخمسين الأخيرة.
وكانت التحديات التي واجهتها كوريا الجنوبية خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام الاقتصادي الجديد. وعلى الرغم من التأثير الكبير للأزمة، تمكنت كوريا من التعامل مع الوضع سريعاً، من خلال إصلاحات هيكلية واسعة النطاق، حيث أعيدت هيكلة الشركات الكبرى، المعروفة بـ"الشيبول"، لتحسين الكفاءة والشفافية، وهو ما ساهم في تعزيز الاقتصاد على المدى الطويل. ويقول المحللون إن كوريا نجحت في تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإعادة بناء اقتصادها على أسس أكثر استدامة.
وإلى جانب التحولات الاقتصادية، شهدت كوريا الجنوبية تحسنًا كبيرًا في البنية التحتية، حيث ساهمت الاستثمارات الموجهة إليها في دعم النمو الاقتصادي وزيادة كفاءة التنقل داخل البلاد، كما ساهمت التحولات الثقافية والاجتماعية، التي رافقت الديمقراطية، في تحسين بيئة العمل وخلق فرص متكافئة للجميع.
وعلى الساحة الدولية، عززت كوريا الجنوبية مكانتها كقوة اقتصادية مؤثرة، حيث تحولت البلاد إلى مركز عالمي للتكنولوجيا والإبداع، وأصبحت أحد اللاعبين الرئيسيين في مجالات الإلكترونيات وصناعة السيارات والتكنولوجيا المتقدمة، الأمر الذي ساعد على تعزيز قدرتها التنافسية عالميًا، وجعلها نموذجًا يُحتذى في التحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية.
وبنهاية عام 2023، تجاوز الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية حوالي 1700 مليار دولار، أي أكثر من أربعة أضعاف نظيره في مصر، والذي كان في حدود 400 مليار دولار، الأمر الذي عكس الفجوة الكبيرة التي نشأت بين الاقتصادين على مر العقود، في وقت وصل التعداد السكاني لمصر إلى أكثر من 110 ملايين نسمة، بينما كان سكان كوريا في حدود 50 مليوناً.
تمثل قصة نجاح كوريا الجنوبية مثالًا فريدًا على كيفية تحقيق النمو الاقتصادي المستدام بالتزامن مع التحولات الديمقراطية. فالإصلاحات التي أجرتها الحكومة الديمقراطية لم تكن مجرد تغييرات سياسية، بل كانت حجر الزاوية لنهضة اقتصادية شاملة أثرت إيجابيًا على المجتمع ككل، وجعلت كوريا الجنوبية قوة اقتصادية بارزة على مستوى العالم.
وفي الوقت الذي كان فيه النجاح الاقتصادي سبباً في الحفاظ على الديمقراطية، ومقاومة محاولة رئيس البلد الآسيوي الانقلاب على المؤسسات المنتخبة، يزيد الحكم الديكتاتوري وغياب الديمقراطية من هشاشة النظم الحاكمة في العديد من الدول العربية، عند تفاقم الأزمات الاقتصادية، وما سورية الحبيبة منا ببعيدة!