استمع إلى الملخص
- **تقرير آفاق الاقتصاد العالمي 2024:** يعكس التقرير تشاؤماً بشأن المستقبل الاقتصادي، متوقعاً تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي للعام الثالث على التوالي، مع استمرار معدلات التضInflation أعلى من المتوسطات السابقة وتصاعد التوترات الجيوبوليتيكية.
- **التوقعات الإقليمية والقضايا النوعية:** يتناول التقرير تباطؤ النمو في شرق آسيا وجنوب آسيا وأوروبا وآسيا الوسطى، مع تحسن محتمل في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وينصح بتعزيز التنويع الاقتصادي وتقوية المؤسسات.
ربما لم يمر العالم بوضع ملتبس اقتصادياً إلى هذا الحدّ منذ ثلاثة عقود على الأقل، ما بين توقعات شبه أكيدة بأزمة اقتصادية ضخمة تقود العالم لركود عنيف طويل، وما بين آمال بإمكانية تجاوز ذلك أو كبحه وتقليص آثاره أو حتى تأجيله على الأقل، سواء بطفرة تكنولوجية جديدة مدفوعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة وغيرها، أو بمزيد من سياسات التوازن والتحفيز الكلّية الطامحة لجمع شبه مستحيل، في سياق جرعات التيسير النقدي المتراكمة، بين استمرار النمو وخفض التضخم، أو الوصول لحالة انكماش مُخطط ومنظم للنمو، بحيث يكون أقل حدّة وقسوة من، ولا يصل إلى درجة، الركود الحاد، في ما يُعرف بالهبوط الناعم "soft landing".
وما يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً هو اشتباكه وترافقه مع صراعات جيوبوليتيكية مُتصاعدة، لا تفاقم حدّة مشكلاته وتعقّد إمكانية حلوله وتُفاقم مشكلة الثقة وحالة عدم التأكد فحسب، بل إنها من الضخامة حتى لتكاد تتخذ بُعداً حضارياً؛ بكونها لأول مرة منذ قرنين على الأقل تخرج من كونها صراعات داخل النطاق الحضاري الغربي، إلى صراعات على نطاق عالمي حقيقي، يشهد صدعاً ضخماً، لا يزال خافتاً وكامناً إلى حد ما، ما بين شرق وغرب؛ بشكل يجعل الأخير الذي لا يزال مُهيمناً أكثر تحفّزاً وعدوانيةً، وتحديداً قلبه ومركزه الأميركي؛ كونه صراعا يهدّد بخروج الهيمنة من كامل النطاق الغربي هذه المرة؛ بكل ما يعنيه ذلك من اضطرابات حتمية وتشقّقات حادة بكامل البُنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي اعتادها ذلك الغرب، وأصبح يتعامل معها بما هي مُسلمات حياة وإستراتيجيات بقاء وإدارة لتناقضاته الداخلية.
تظهر آثار هذا التشاؤم في مقدمة تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لعام 2024، الذي يصدر عن مجموعة البنك الدولي، رغم محاولتها البدء بالتفاؤل بالإيجابيات المُحتملة والنجاحات المُحرَزة على صعيد تخفيف وطأة الأزمة وتأجيل انفجارها حتى الآن، حيث اضطرّت رغم المحاولة للاعتراف بلغة صريحة مباشرة، غير معتادة كثيرًا في هذا النوع من التقارير شبه الدبلوماسية، بأن "التوقّعات مُظلمة" بعد العامين المقبلين، ولا نعلم قصدها بالضبط، أمُظلمة سوءاً؟ أم غموضاً؟ أم لجهة الاثنين معاً!
جاء التقرير في أربعة فصول، تناول أول فصلين التوقّعات، مهمة التقرير الرئيسية، فغطّى الفصل الأول التوقّعات العالمية كلياً ونوعياً، واهتم الفصل الثاني بالتوقّعات الإقليمية للست مناطق الرئيسية في العالم، فيما اختص الفصلان التحليليان، الثالث والرابع، بموضوعيّ: (1) حفز وتيرة الاستثمار عبر تعزيز منافع الاستثمار العام، و(2) تحديات السياسة المالية في البلدان الصغيرة المصدّرة للسلع الأساسية.
التوقّعات العالمية: أول التوقّعات أن يستمر تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي للعام الثالث على التوالي منذ جائحة كورونا، مُنخفضاً من 2.6% عام 2023 إلى 2.4% عام 2024، كما يُتوقّع أن يظل مُنخفضاً في الأعوام المقبلة عما كان عليه طوال العقد السابق على الجائحة بالنسبة لحوالي 80% من العالم، بل وربما يكون الأضعف منذ ثلاثة عقود؛ ما أرجعه التقرير إلى مجموعة أسباب عامة، تتمحور حول احتمالات استمرار ارتفاع معدلات التضخّم وأسعار الفائدة طويلة الأجل، واستمرار سياسات التشديد النقدي والتقييد المالي وارتفاع تكاليف الديون والاقتراض، وتراجع وتفتت التجارة والأسواق الدولية، كذا تفاقم حالة عدم التأكد السياساتي وانخفاض الاستثمار العالمي، فضلاً عن تصاعد التوتّرات الجيوبوليتيكة والصراعات المُسلحة في أوكرانيا والشرق الأوسط، وتزايد وتيرة الكوارث الطبيعية ومشاكل التغيّر المناخي.
وقد رجّح التقرير تباطؤ نمو أغلب الاقتصادات المتقدمة والصين، مقابل محافظة الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة ذات التصنيفات الائتمانية القوية على معدلات نموها السابقة على كورونا، فيما توقّع استمرار معدلات التضّخم أعلى من متوسطاتها السابقة على كورونا في معظم الاقتصادات المتقدمة وما يقارب نصف الاقتصادات النامية، رغم توقّعه المتفائل نسبيًا ببوادر اتجاه الحكومات لتخفيف سياسة التشديد النقدي، الذي، مع ذلك، لن يخفض أسعار الفائدة الحقيقية قريباً.
التوقّعات الإقليمية: يبدأ الفصل بمنطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، مشيراً لتباطؤ النمو بسبب ضعف الطلب الخارجي واضطراب سلاسل الإمداد والتوريد، ومُتوقّعاً الميل لاستقرار النمو مع أي تحسّن بالتجارة الدولية والطلب المحلي، وإن كانت التوتّرات التجارية والجيوبوليتيكية التي قد تواجهها الصين مع الولايات المتحدة قد تؤدي لتباطؤ النمو بها بأكثر من المُتوقّع.
ولم يختلف تصوّر التقرير لواقع وتوقعات منطقة جنوب آسيا كثيراً عن شرقها، من تأثّرها باضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد وجائحة كورونا، كذا معاناتها من الضغوط التضخمية والاضطرار لتشديد السياسات النقدية شأن أغلب المناطق الأخرى، مُتوقّعاً لها الانتعاش تدريجياً مع تحسّن الطلب الداخلي والخارجي، مع تخوّفات من تكرار الإشكالات سالفة الذكر، ومن حالة عدم التأكد بشأن السياسات. بالمثل، تباطؤ النشاط الاقتصادي بمنطقة أوروبا وآسيا الوسطى، بسبب اضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد وارتفاع أسعار الطاقة وسياسات التشديد النقدي تحت ضغط ارتفاع معدلات التضخّم، وتوقّع التقرير تحسّن أدائها مع تراجع هذه العوامل، بشرط استقرار الأوضاع الجيوبوليتيكية إقليمياً وعالمياً.
أما أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، فخلافاً لارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيم العملات والاضطرابات الاجتماعية، فقد تحسنت أوضاع السياحة بها كما استفادت الغنية بالموارد منها من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وإن لم تتجاوز أفضل توقّعات المنطقة حدود الانتعاش المتواضع، فيما تظل مخاوف عدم التأكد بشأن السياسات والاضطرابات الاجتماعية والانكشاف على الخارج مستمرة.
وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي توقّع لها التقرير معدلات نمو 3.5% في عاميّ 2024 و2025؛ بفضل الارتفاع المُتوقّع في إنتاج النفط، فإن معدلات النمو على مستوى المنطقة بمجموعها تظل أقل من إمكاناتها؛ بسبب معاناتها ضغوطاً تضخّمية شأن المناطق الأخرى، واضطرارها لتشديد السياسات النقدية في بعض بلدانها؛ لهذا توقّع التقرير انتعاش النمو بالمنطقة إذا ارتفعت أسعار النفط وزاد الإنفاق الحكومي، في حال لم تؤد التوتّرات الجيوبوليتيكية والتحديات الأمنية لاضطراب استقرار المنطقة والتأثير سلباً على أسعار النفط وصادراته، ولم تتأثّر سلباً بسياسات التشديد النقدي بالاقتصادات الصناعية الكبرى وباضطرابات التغيرّ المناخي.
وتزداد أهمية وتأثير التوتّرات الجيوبوليتيكية على المنطقة بسبب ارتفاع درجة اعتمادها على صادرات الطاقة؛ ما يزيد من انكشافها على الخارج، ويرفع احتمالات تدهور النمو بها مع الضعف المتطاول في التجارة الدولية واستمرار التقييد المالي، فضلاً عن احتمالات تباطؤ الاستثمار والإنتاج مع حالة عدم اليقين الناتجة من المخاوف الجيوبوليتيكية.
لهذا ينصح التقرير قادة المنطقة بتعزيز جهود التنويع الاقتصادي وإصلاح السياسات لتعزيز المرونة والصلابة وتقليل الاعتماد على صادرات الطاقة، فضلاً عن تقوية المؤسسات ومعالجة المخاطر الجيوبوليتيكية للتقليل من حالة عدم التأكد المسيطرة على المنطقة، كما أشار لأهمية التعاون الإقليمي بين اقتصادات المنطقة لتعزيز الاستقرار الجماعي والتنمية المُستدامة فيما بينها جميعاً.
ومن الواضح تقاطع أغلب المشكلات وأسبابها فيما بين المناطق المختلفة، خصوصاً عالمية الطابع منها كالمخاطر الجيوبوليتيكية والتوتّرات بين القوى الكبرى، وارتفاع معدلات التضخم والفائدة بما تجرّه من تقييد وتشديد مالي ونقدي؛ المدفوعة بأوضاع الأزمة الاقتصادية العالمية، وسياسات البنك الفيدرالي الأميركي القائد النهائي للسياسات النقدية والمالية العالمية، وهو الأمر الذي لم يتناوله التقرير؛ ربما لطبيعته التقنية وأولويته الوصفية البحتة، والتي ليست حجة كافية ولا مبرر حقيقي بالتأكيد.
القضايا النوعية: في ما وصفه بـ "سحر تعجيل الاستثمار" يتناول الفصل الثالث القضية التحليلية الأولى للتقرير، المُتعلقة بمنافع دفع تسارع الاستثمار، مشدداً على دوره المركزي في دفع النمو الاقتصادي عموماً، وكيف يمكن لتسريع وتيرته أن يعزّز نمو الائتمان والإنتاج ويزيد الانفتاح التجاري ويساهم بالحدّ من الفقر وتحقيق أهداف التنمية المُستدامة بالاقتصادات النامية والأسواق الناشئة خصوصاً.
ويعني تسريع وتيرة الاستثمار أن يتجاوز معدل نموه 10% سنوياً، مع ضرورة توفير إطار مناسب من المؤسسات والسياسات؛ لضمان تجاوب الاستثمار الخاص، المحلي والأجنبي، للحوافز التشجيعية والآثار الخارجية الإيجابية التي يحاول دفعها الاستثمار العام، ويشمل ذلك الإطار تحسين الأوضاع المالية واستهداف التضخم والتكامل التجاري والجودة المؤسسية والإصلاحات الهيكلية.
ويتناول الفصل الرابع القضية التحليلية الثانية للتقرير، الخاصة بتحديات المالية العامة التي تواجه البلدان الصغيرة المصدّرة للسلع الأساسية، مع ما يعتريها من تقلّبات متزايدة في السياق العالمي المضطرب حالياً، خصوصاً مع ما تتسم به هذه الدول من ارتباط مالياتها العامة بالدورة الاقتصادية العالمية؛ بشكل يفرض تحديات خاصة على استدامتها المالية واستقرارها الاقتصادي؛ لهذا ينصحها التقرير بتنويع مصادر الإيرادات وبناء هوامش أمان مالية، فضلاً عن تعزيز الجودة المؤسسية؛ إذ يمكن أن تساعد في تحسين الإدارة المالية ورفع مستوى الشفافية وتعزيز الاستدامة المالية.
سياسة أكثر؛ غموض أكبر: لعلّ الملاحظة الأبرز على توقّعات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لهذا العام هي هيمنة المخاوف الجيوبوليتيكية عليه، فضلاً عن واقع ارتفاع معدلات التضخّم والتشديد المالي والنقدي؛ بشكل غلّب الغموض على أغلب تلك التوقعات، حتى أنه اعتبر نهاية العام الحالي العتبة التي ستحدّد مستقبل الاقتصاد والتنمية العالميين لكامل العقد المقبل، مؤكداً بشكل ضمني على الأولوية المُطلقة للعامل الأول بما هو مُحدد حاسم لكافة الاتجاهات المُحتملة من جهة، ومُثبّتا العامل الثاني في كافة المناطق بصفته واقعا عالميا ناتجا من عالمية الأزمة الاقتصادية من جهة أخرى.
والواقع أن العاملين مرتبطان تكوينياً؛ فالأزمة الاقتصادية العميقة المُنتجة لارتفاع التضخّم ومخاوف الركود، بما هي مظاهر لها، والحيرة بينهما بالتشديد المالي والنقدي ومحاولة حفز الاستثمار في ذات الوقت، هي نفسها مُتمركزة في صُلب الصراع الجيوبوليتيكي؛ بمفاقمة الصراعات المباشرة بين القوى الكبرى من جهة، وبمحاولة كل منها نقل وتصدير أعبائها إلى الآخر من جهة أخرى، وبخلق اضطرابات بالسياسات الحمائية والاحترازية لكافة الأطراف الأخرى وبكامل منظومة الاقتصاد الدولي من جهة ثالثة، وهو الارتباط والتشابك الذي تدعمه الخبرات التاريخية الحديثة، بالتزامن والترادف بين الأزمات الاقتصادية العالمية والحروب الإقليمية والعالمية الكبرى، وما ترادف الكساد العالمي الكبير والحرب العالمية الثانية، وما نراه اليوم من صراعات مُتصاعدة عبر مفاصل ونقاط احتكاك النظام الدولي المختلفة اليوم في أوكرانيا وغزة وربما تايوان قريباً، سوى نماذج مختلفة الحجم والنوع لنفس الظاهرة والعلاقة؛ وإن كانت الصراعات التي نعيشها اليوم لا تزال في بدايتها؛ توافقاً وترافقاً مع جنينية الأزمة الاقتصادية ومحاولات كبحها وتأجيلها نفسها.
هذا الارتباط بين الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والصراعات الجيوبوليتيكية المتزايدة هو الشيء الوحيد الواضح المؤكد، وما عداه من توقّعات وآفاق ليس سوى ضرب في الظلام ومقاومة للغموض الناتج من هذا الارتباط نفسه، والذي يُنتح بحدّ ذاته مزيداً من الصعوبات الاقتصادية؛ بتحفيزه حالة عدم التأكّد وميول التحفّظ والتحوّط التي تكبح رؤوس الأموال وتضعف الاستثمارات وتُخلّ بمنطق السياسات؛ فتعمّق الأزمات على كافة المستويات؛ بما يؤدي للتغذية الذاتية لها بسبب "التوقّعات التي تحقّق نفسها" بنفس منطق المثل الشعبي المصري "اللي يخاف من العفريت يطلع له".