لم يعد القمح وحده ما يقلق العالم، بعد انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية واستهداف موانئ التصدير الرئيسية، وإنما يدخل الأرز قائمة السلع المرجح نقص المعروض منها وارتفاع أسعارها، وسط حظر متتالٍ من الدول لتصديره، على رأسها الهند أكبر، مصدر في العالم لهذه السلعة، ومن بعدها الإمارات التي تعد مركزاً لتجارة الترانزيت في المنطقة العربية، وبعدها روسيا، وسط توقعات باتساع قائمة دول الحظر في الأيام المقبلة، ما يثير قلقاً متزايداً لدى الدول المستوردة، بخاصة في منطقة الخليج العربي، ما دعا حكومات إلى إصدار بيانات حول حجم احتياطياتها من الأرز الذي يعد الوجبة الرئيسية فيها.
وتزحف تحركات الأسعار إلى سلع استراتيجية أخرى، لاسيما السكر، ما دعا محللين ومؤسسات مالية دولية إلى التحذير من عودة موجات التضخم المتصاعدة في الكثير من الدول في الفترة المقبلة، ما سيكون بمثابة ضربة جديدة للمستهلكين، بينما كانت الضغوط على ميزانيات الأسر قد هدأت في الأشهر الماضية بفعل تراجع أسعار الغذاء عالمياً.
وفرضت الحكومة الروسية، السبت الماضي، حظراً على تصدير الأرز حتى نهاية العام الجاري 2023، مبررة ذلك بالحفاظ على الاستقرار في السوق المحلية، وذلك بعد يوم من إعلان الإمارات أيضاً إيقاف تصدير الأرز وإعادة تصديره لمدة أربعة أشهر، بما يشمل الأرز هندي المنشأ.
الإمارات تستورد 90% من احتياجاتها الغذائية
وقالت الإمارات، التي تستورد 90% من احتياجاتها الغذائية، إن الحظر يشمل جميع أصناف الأرز مثل الأرز الأسمر والأرز المضروب كليا أو جزئيا والأرز المكسور، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإماراتية "وام". وجاء ذلك في أعقاب قرار الحكومة الهندية، في يوليو/تموز الماضي، وقف تصدير الأرز الأبيض غير البسمتي والمكسور في ظل زيادة الأسعار، وبعدما ألحقت الأمطار الموسمية أضرارا كبيرة بالمحصول.
ويمثل تصدير الأرز الأبيض غير البسمتي أكثر من نصف كمية الأرز المُعدَّة للتصدير في الهند. وتنتج الدولة أكثر من 40% من صادرات الأرز العالمية، ما يثير مخاوف من تضخم هائل، وشُحٍّ حاد في المعروض بأسواق الغذاء العالمية.
ووفق بيانات حديثة صادرة عن وزارة الزراعة الأميركية، قفز استهلاك الأرز خلال العام 2022- 2023 إلى 517 مليون طن مقابل نحو 461 مليون طن في عام 2022/ 2023. وأشارت البيانات إلى أن الهند أكبر مصدر للأرز إلى العالم بكميات تبلغ 22.5 مليون طن تليها تايلاند بـ8.5 ملايين طن، وفيتنام بـ7.5 ملايين طن، وباكستان بـ6.3 ملايين طن، والولايات المتحدة بـ2.1 مليون طن.
وقفزت أسعار الأرز العالمية في آسيا إلى أعلى مستوياتها في أكثر من 3 أعوام نهاية الأسبوع الماضي، حيث ارتفع سعر الأرز التايلاندي (كسر 5%)، الذي يعتبر سعر الأرز المرجعي في القارة، إلى 572 دولاراً للطن، وهو أعلى مستوى له منذ إبريل/ نيسان 2020، وفقًا للبيانات الصادرة عن اتحاد مُصدري الأرز التايلاندي، ويمثل الارتفاع الأخير زيادة بمقدار 7% عن السعر قبل أسبوعين. كما ارتفع سعر الأرز الفيتنامي إلى 558 دولاراً للطن. ويتوقع محللون أن يرتفع الأرز الفيتنامي (كسر 5%) إلى 600 دولار للطن خلال أغسطس/آب الجاري.
ووفق المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، فإنه إذا اتخذت الهند إجراءات أكثر صرامة في حظر الأرز، فقد تكون له تداعيات كبيرة على البلدان التي تعتمد حالياً على الواردات من الهند. ويأتي الحظر المتتالي الذي تفرضه الدول على الأرز، والذي يتوقع اتساع رقعته في الفترة المقبلة، وسط تفاقم المخاوف حيال تأثر إمدادات السلع الزراعية بظاهرة النينيو المناخية التي تؤدي إلى ارتفاع درجات حرارة سطح البحر عن المتوسط ولها تأثير كبير على الطقس في جميع أنحاء العالم ما يؤثر بدوره على مليارات الأشخاص، كما بالهجمات الروسية على منشآت تصدير الحبوب الأوكرانية.
وحذرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية الحكومات مؤخراً من المزيد من الظواهر الجوية المتطرفة ودرجات الحرارة القياسية في الأشهر المقبلة. ويمكن أن يؤثر ذلك على أسعار الأطعمة، إذ تُتداول العقود الآجلة لسلع مثل السكر والكاكاو بأعلى مستوياتها منذ عدة سنوات بناء على تنبؤات لنقص المعروض.
وقال المحلل في "بي إم أو كابيتال ماركتس" سيميون سيغل: "الآثار تتجاوز المزارع، فالتقلبات غير المتوقعة في الطقس يمكن أن تؤثر سلباً على قطاع التجزئة"، مضيفاً وفق شبكة "سي أن أن" الأميركية: "يتعين على تجار التجزئة أو العلامات التجارية ألّا يتوقعوا ما يريده المستهلكون فحسب، بل يتعين عليهم كذلك التنبؤ بما ستلقي به الطبيعة عليهم".
تراجع مخزونات العالم من الأرز
ورغم أن العالم يشهد مخزونات قياسية من الأرز، فإنّ عودة ظاهرة "النينيو" تهدد هذه الاحتياطيات وتضعها على المحك. وغالباً ما يجلب نمط الطقس هذا ظروفاً أكثر سخونة وجفافاً إلى آسيا، التي تنتج وتستهلك 90% من إمدادات الأرز العالمية. وطلبت تايلندا، ثاني أكبر دولة مصدرة للأرز في العالم، من المزارعين الحد من زراعتهم بسبب انخفاض هطول الأمطار. ويُتوقع تراجع مخزونات العالم من الأرز بنسبة 5% لتصل إلى 173.5 مليون طن هذا الموسم، وفقاً لوزارة الزراعة الأميركية.
بدأ القلق يُراود المستوردين، إذ كثفوا مشترياتهم من الأرز خلال الأشهر الأخيرة. وشحنت فيتنام، ثالث أكبر دولة مصدرة في العالم، كميات من الأرز تفوق 40% إلى الفيليبين خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023 مقارنةً بالعام الماضي. وصعدت الصادرات كذلك إلى الصين بأكثر من 70%، وإلى إندونيسيا بنحو 2.5%، وفقاً لإدارة الجمارك الفيتنامية.
وقال جيريمي زوينغر، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة الأبحاث الزراعية "ذا رايس تريدر"، لوكالة بلومبيرغ، إنّ "هناك خطراً من أن يؤثر الطقس على جودة محاصيل الأرز"، مشددا على ضرورة حفاظ البلدان على مخزونات استراتيجية جيدة. وأضاف: "على فيتنام توخي حذرها لأنها تصدر كميات كبيرة، والمخزونات محدودة تقريباً".
وتعيد قرارات الدول حظر تصدير سلع غذائية استراتيجية إلى الأذهان ما أقدمت عليها العديد من الدول من حظر التصدير خلال جائحة فيروس كورونا في ظل تعطل سلاسل التوريد، ما أربك السوق العالمية.
وقال الرئيس الفخري لجمعية مصدّري الأرز التايلاندي تشوكيات أوفاسونغسي، وهي أحد أكبر مصادر شحن الحبوب في العالم، لبلومبيرغ: "سيرتفع سعر الأرز بالتأكيد على المدى القصير، لكن لا أحد يعلم إلى أي مدى سيرتفع... ستكون قفزة الأسعار كبيرة وسريعة وغير تدريجية".
ودفع القلق المتنامي من اتساع رقعة حظر تصدير السلع الغذائية بعض حكومات الدول المستوردة للغذاء إلى الإعلان عن كفاية مخزونها من الأرز وسلع أخرى. وقال وزير التجارة والصناعة في الكويت محمد العيبان، إن مخزون بلاده من الأرز مطمئن، ويُغطي احتياجاتها لعام كامل. وأضاف العيبان أن وزارة التجارة تُتابع المتغيرات والمستجدات التي تتعرض لها السلع التموينية في الأسواق العالمية، وعلى رأسها الأرز، باعتبار أنه إضافة للقمح من أهم المواد الغذائية الأساسية في الكويت.
ويعتبر الأرز جزءًا أساسيًا من الوجبات الرئيسية في دول مجلس التعاون إلى جانب القمح. وبلغت سوق الأرز في دول مجلس التعاون 1.6 مليار دولار في نهاية العام الماضي 2022، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 1.7 مليار دولار في العام 2028، وفق منظمة الغذاء العالمية. وتعد الكثافة العالية للمغتربين من آسيا في الدول الخليجية أحد عوامل زيادة الطلب على الأرز في دول المنطقة.
البنك الدولي يحذر من الجوع
من المتوقع أن يحفز ارتفاع سعر الأرز السلع الزراعية الأخرى على الصعود، علاوة على الزيادات في سعر القمح والذرة. بينما حذر تقرير حديث للبنك الدولي من أن الجوع لا يزال في العالم أعلى بكثير من مستوياته ما قبل جائحة كورونا.
وأوضح التقرير الذي شارك فيه كل من منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) والصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي، أن التقديرات تشير إلى أن ما يتراوح بين 690 و783 مليون شخص في العالم عانوا من الجوع في عام 2022، وهو ما يزيد بمقدار 122 مليون شخص على مستويات ما قبل الجائحة.
وفي البرازيل، المورد العالمي الرائد للسكر، يعيق المطر الحصاد في المنطقة الجنوبية الوسطى من البلاد، حيث يُنتج نحو 90% من المحصول. وبالفعل، بدأت التداعيات تصل سريعا إلى الدول المستهلكة التي تعتمد على الاستيراد في سد احتياجاتها. فقد قفز سعر السكر في مصر بنحو 26% في شهر ليبلغ 24 ألف جنيه للطن (776 دولاراً) مقارنة بنحو 19 ألفاً مطلع يوليو/ تموز، وفق رئيس شعبة السكر في اتحاد الصناعات حسن الفندي في تصريحات صحافية، أمس.