تقترب باكستان من الإفلاس المالي، هي الدولة النووية التي يقطنها ما يناهز ربع مليار نسمة، ما يجعل انهيارها أزمة عالمية، لا محلية ولا إقليمية فحسب.
وقد تضعف الأزمة المالية الدولة الواقعة في جنوب آسيا، ليس على صعيد المستويات الاقتصادية والمعيشية فحسب، وإنما أيضا على صعيد ملفات سياسية وأمنية بالغة الأهمية، بعد أن أشارت تقارير إعلامية محلية إلى أن الأزمة طاولت مخصصات إقليم آزاد جامو كشمير الخاضع لسلطة باكستان، والذي يعد بؤرة للصراع مع الهند منذ سنوات طويلة.
وتسعى باكستان للحصول على حزمة إنقاذ مالي من صندوق النقد الدولي مجدداً، وهو ما فعلته أكثر من 20 مرة، لكن مأزقها أخطر بكثير هذه المرة، بعد أن أثرت الفيضانات، على ملايين الأفراد العام الماضي، وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وتراكمت السحب القاتمة على الاقتصاد العالمي.
كما قد تكون باكستان أيضاً نذيراً لحدوث انهيار اقتصادي مماثل في بلدان أخرى مثقلة بالديون، فمشاكلها تعيد إشعال نقاش متوتر باستمرار حول كيفية هيكلة ديون الدول المتعثرة، ومن يجب أن يتحمل التكلفة.
وتشهد الدولة تطورات مقلقة حيث يُدهس الناس أثناء محاولة شراء المواد الغذائية المدعومة مع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى في 48 عاماً، وتغرق البلاد في الظلام الدامس بسبب انقطاع التيار الكهربائي، بالإضافة إلى اضطرابات سياسية كبيرة.
شروط قاسية لصندوق النقد
ويبدو المشهد معقداً للغاية، فبينما تقدم الحكومة على تنفيذ اشتراطات صندوق النقد الدولي من أجل المضي قدماً في صرف قرض مصيري متعثر منذ سنوات لإنقاذ البلاد مالياً، تتصاعد الضغوط المعيشية مع خفض قيمة الروبية أمام العملات الأجنبية ورفع أسعار الوقود وتقليص دعم الغذاء، وفرض المزيد من الضرائب، وزيادة أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة، ما يدفع المزيد من السكان إلى الفقر والبطالة، في حين تشير البيانات الرسمية إلى أن أكثر من ثلث السكان البالغ عددهم 231.4 مليون نسمة يقبعون بالأساس تحت خطر الفقر.
لكن رئيس الوزراء شهباز شريف، قال خلال اجتماع مع كبار مسؤولي الأمن في مكتبه في إسلام أباد أذاعه التلفزيون مباشرة، يوم الجمعة الماضي، إن بلاده مضطرة لقبول الشروط القاسية لصندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على طوق نجاة للاقتصاد، مضيفا "مضطرون لأن نقبل، مرغمين، الشروط الصارمة لاتفاق صندوق النقد الدولي".
من كراتشي إلى لاهور، يتحمل الفقراء العبء الأكبر بعدما ارتفعت أسعار كل السلع. وصعد سعر حليب الأطفال بنسبة 15% في شهر واحد. وتتكدس الآلاف من حاويات المواد الغذائية في الموانئ بعدما فرضت الحكومة قيوداً على الواردات للحفاظ على آخر 3 مليارات دولار من العملات الأجنبية. وتعرض رجل للموت دهساً في إقليم السند الواقع جنوب شرق البلاد، الشهر الماضي، بعد أن هرع حشد من الناس نحو مسؤولين يقومون بتوزيع الدقيق المدعوم.
تنقل وكالة "بلومبيرغ" الأميركية عن عبد الرحمن، البالغ من العمر 50 عاماً، قوله إن الوضع أصبح مستحيلاً بالنسبة إلى عائلته المكونة من أربعة أفراد، مشيرا إلى أن ملء خزان دراجته البخارية مرة واحدة بالوقود يستهلك نحو سدس راتبه الشهري البالغ 18 ألف روبية (نحو 70 دولاراً)، الذي يكسبه عن طريق تقطيع الخضار في مطبخ يوفر الطعام لحفلات الزفاف.
"كيف نذهب للعمل في ظل أسعار الوقود الحالية؟"، هكذا تساءل عبد الرحمن خارج محطة وقود في كراتشي، العاصمة التجارية التي تعج بالنشاط على ساحل بحر العرب، مضيفا: "لم أشهد مثل هذا الوقت العصيب من قبل".
ويمثل الوقود قضية حساسة على وجه التحديد. ففي عام 2022، قام نجم الكريكيت رئيس الوزراء السابق عمران خان، آنذاك، بتخفيض أسعار الديزل والبنزين وتجميدها. وساعدت تلك البادرة ذات الطابع الشعبوي على تهدئة التضخم الجامح، لكنها عمقت من الصعوبات المالية للدولة المثقلة بالديون.
وأصر صندوق النقد الدولي على رفع الدعم عن الوقود، وبالفعل أقدمت الحكومة مؤخراً على رفع أسعار البنزين والديزل والغاز. كما خفضت الحكومة قيمة العملة.
لكن كرة الثلج تتدحرج سريعاً فبينما هدفت إسلام أباد من خفض قيمة الروبية إلى تقليص الفجوة بين سعر صرف العملة الوطنية في السوقين الرسمية والموازية وجذب المزيد من تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية، إلا أنه سرعان ما ازدادت السوق السوداء شراسة واتسع الفارق كثيراً، حيث يجري تداول الدولار بسعر أعلى بكثير من البنوك وشركات الصرافة.
ويجري تداول الروبية في البنوك بنحو 258 للدولار، ونحو 268 في شركات الصرافة، في حين يصل إلى نحو 300 روبية للدولار في السوق السوداء.
وقال ظفار باراشا، الأمين العام لاتحاد شركات الصرافة في تصريحات لصحيفة داون الباكستانية، إنه في السوق السوداء، يجري تداول الدولار بسعر 285 روبية في كراتشي، و290 روبية في بيشاور، وما يتراوح بين 295 روبية إلى 300 روبية في مناطق أخرى.
وقال مصرفيون إن المستوردين يلجأون حالياً إلى السوق السوداء لشراء الدولار، ما يؤدي إلى قوة العملة الأميركية في تلك السوق، معربين عن قلقهم من أن السوق السوداء الآخذة في النمو قد تضعف التحويلات المالية من جانب المغتربين إلى الدولة عبر القنوات الرسمية.
أزمة رواتب تلوح في الأفق
وبينما تركزت تداعيات الصعوبات المالية خلال الأشهر الماضية، على مدى قدرة الدولة على سداد التزاماتها الخارجية وتوفير النقد الأجنبي اللازم لاستيراد السلع الأساسية والمشتقات النفطية، تشير تقارير محلية إلى أزمة داخلية أشد وطأة تتعلق بالعجز عن صرف رواتب الموظفين والمتقاعدين، بينما تستبعد وزارة المالية هذه السيناريو.
ووفق ما نقلت صحيفة "ذا نيوز إنترناشونال" الباكستانية، عن مصادر رسمية رفيعة، فإن "الحكومة توقفت عن تسوية فواتير الرواتب والمعاشات التقاعدية حتى صدور أوامر أخرى". لكن وزارة المالية وصفت الأمر بأنه "شائعات"، موضحة أنه" لم يتم إعطاء مثل هذه التعليمات".
وقال وزير المالية إسحاق دار إن "الأخبار الكاذبة" تنتشر "للإضرار بالمصالح الاقتصادية الوطنية". وحث المواطنين على عدم تداول مثل هذه التقارير والأخبار دون التأكد من الوزارة المختصة.
في الأثناء، ذكرت صحيفة داون، أن إقليم آزاد جامو كشمير الخاضع لسلطة باكستان، يواجه تقليصاً في المخصصات من قبل الحكومة الاتحادية، مشيرة إلى أن رئيس الإقليم سرداد مسعود خان، عقد اجتماعاً، أمس السبت، مع وزير المالية إسحاق دار، لكنه فشل في تأمين أي ضمانات للإفراج عن ميزانية الإقليم.
وخفضت الحكومة الاتحادية ميزانية الإقليم الحالية 2022/2023 التي تنقضي بنهاية يونيو/حزيران المقبل بمقدار 15 مليار روبية من المبلغ المخصص سابقاً البالغ 74.32 مليار روبية.
اضطرابات سياسية
ويأتي هذا التطور وسط وضع اقتصادي غير مستقر للبلاد. إذ يضاف الاضطراب السياسي إلى قائمة المشاكل التي تواجه البلاد، فالحكومة منشغلة بصراع لا نهاية له مع رئيس الوزراء المخلوع عمران خان والجيش الذي يتمتع بنفوذ كبير على الوضع السياسي في البلاد.
وما يزيد الأمور سوءاً، أن باكستان تعرضت لكارثة مناخية، حيث غمرت الفيضانات الصيف الماضي حوالي ثلث البلاد، مما أسفر عن تشريد الملايين، وخفض النمو الاقتصادي بمقدار النصف، ما عمق الصعوبات المالية للدولة ودفعها للدنو كثيراً من حافة العجز عن سداد التزاماتها المالية الخارجية في سيناريو شبيه بإفلاس سريلانكا في إبريل/ نيسان 2022.
لكن وزير التجارة، سيد نافيد قمر، قال في مقابلة مع وكالة بلومبيرغ الأميركية على هامش زيارة إلى واشنطن، يوم الثلاثاء الماضي: "سنقوم بسداد جميع مدفوعاتنا المتوقعة هذا العام مهما تكلّف الأمر". وفي نفس اليوم، قال وزير المالية إسحاق دار في بيان إن الحكومة ستفي بالتزاماتها المالية الدولية. في المقابل، يجري تداول السندات الدولارية الباكستانية عند مستويات التعثر، مما يشير إلى قلق المستثمرين بشأن قدرتها على سداد ديونها.
وتوقع وزير التجارة أن تستأنف بلاده المناقشات حول خط ائتمان بقيمة 6.5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي في أقرب وقت، مما يساعد على جذب الاستثمار وتعزيز الاقتصاد والتجارة بالبلاد. في حين تحتاج باكستان إلى ما بين 8 و9 مليارات دولار خلال الأشهر الأربعة المقبلة، للوفاء بالالتزامات الدولية.
كما أن مبلغ القرض الذي يعتزم صندوق النقد الدولي تقديمه يظل ضئيلاً بالنظر إلى إجمالي ديون باكستان البالغة 240 مليار دولار، منها أكثر من 100 مليار دولار ديوناً خارجية. وكان الصندوق قد صرف دفعة بقيمة 1.1 مليار دولار في أغسطس/ آب الماضي من القرض المتفق عليه مع باكستان في 2019، لكن المحادثات بين الطرفين تذبذبت كثيراً منذ ذلك الحين، بسبب تردد باكستان في تنفيذ اشتراطات صندوق النقد خشية السخط الشعبي، لا سيما في ظل معاناة البلد من ظروف اقتصادية صعبة وترد معيشي خاصة في أعقاب الفيضانات التي ضربت البلاد خلال العام الماضي وعمقت متاعب الكثيرين.
وأقر مسؤول حكومي في تصريحات أوردتها صحيفة داون بأن شروط صندوق النقد سيترتب عليها "عبء مالي ضخم على أغلبية السكان الذين يعانون بالفعل من ضغوط شديدة.. سيتعين على الطبقة الوسطى والإدارة المدنية والقوات المسلحة والقضاء التضحية بنمط الحياة الذي لم يعد أكثر استدامة".
وأضاف أن "التأثير على الأغنياء سيكون متناسباً مع أموالهم، سواء من حيث زيادة تعرفة الطاقة أو العبء الضريبي الإضافي". وتابع المسؤول أن "حوالي 30% من السكان تحت خط الفقر ويتم الاعتناء بهم من خلال مختلف برامج الدعم الاجتماعي، في حين أن ما بين 22% و25% آخرين أكثر عرضة لدوامة التضخم، وبالتالي يجب حماية هؤلاء من المزيد من الصدمات.. سيتطلب ذلك نظرة عطوفة من صندوق النقد".
المتعثرون الآخرون يراقبون
وأضحت قضية ديون باكستان ومحاولات إنقاذها مالياً محورية على الصعيد العالمي أيضا وتحظى تطوراتها بمراقبة شديدة من قبل الاقتصادات الناشئة الأخرى، فبين عامي 2010 و2020، زادت الديون الخارجية للدول الفقيرة بأكثر من الضعف لتصل إلى 860 مليار دولار، وفقاً لبيانات البنك الدولي.
ودعا ذلك مديرة الصندوق كريستالينا غورغييفا، إلى التلميح، يوم السبت الماضي، على هامش اجتماع لمجموعة العشرين في مدينة بنغالور الهندية، بوجود بعض العقبات في ما يتعلق بإعادة هيكلة ديون الاقتصادات المتعثرة. ويشار إلى أن مصر وإثيوبيا وطاجيكستان من بين البلدان التي تواجه مشاكل شبيهة بباكستان.
وقالت ماليها لودهى، التي شغلت مرتين منصب سفيرة باكستان لدى الولايات المتحدة، إن العديد من مشاكل البلاد من صنع أيديها، موضحة وفق وكالة بلومبيرغ "بدأت تظهر تداعيات تصرفات الماضي.. ظلت الحكومات على مدار عقود تنفق ما يتجاوز إمكانياتها.. والنخبة التي تتمتع بالامتيازات تغاضت عن المصلحة العامة".
مع ذلك، بحسب لودهى، فإن هذا الواقع لا يعني أن على العالم أن يترك باكستان تنهار، لسبب واحد: ستتأثر حياة أكثر من 230 مليون شخص. علاوة على ذلك، يجب أن تؤخذ الأهمية الجيوستراتيجية للبلاد في الاعتبار، حيث تقع على حدود الصين والهند وإيران وأفغانستان. كما أن قدراتها النووية وخطر وقوعها في الأيدي الخطأ أحد الأسباب الواضحة الأخرى التي تجعل العالم يقف بجوار باكستان.