هل باتت ألمانيا "الرجل المريض الجديد في أوروبا؟" ذلك تساؤل طرحته مجلة إيكونوميست في أغسطس/ آب الماضي.
وهو ما أثار حفيظة المسؤولين في التحالف الحكومي الحاكم في ثالث اقتصاد في العالم، حيث رد وزير المالية كريستيان ليندنر، بمناسبة منتدى دافوس في يناير/ كانون الأول الماضي، بأن ألمانيا "رجل متعب يحتاج إلى قهوة"، الأمر الذي استقبله البعض بشيء من التهكم، وانتقاد سياسات وزير الاقتصاد ونائب المستشار الألماني روبرت هابيك ، التي لم تتمكن من إبعاد شبح الركود عن أكبر اقتصاد أوروبي وثالث أكبر اقتصاد في العالم.
وعاد الوضع الاقتصادي في ألمانيا إلى بؤرة الاهتمام من جديد، نهاية الأسبوع الماضي، حينما خفضت الحكومة، توقعاتها للنمو الاقتصادي في العام الحالي، إلى 0.2% بعد توقعات سابقة راهنت خلالها على نمو بنسبة 1.3%، وذلك في ظل انخفاض الصادرات وزيادة أسعار الطاقة، غير أن قلق الألمان يتعاظم مع توقع تحقيق معدل نمو سنوي في حدود 0.5% في أفق 2028.
وضعية الاقتصاد الألماني تشغل كثيراً وزير الاقتصاد هابيك، المنتمي لحزب الخضر، الذي يرى أن الاقتصاد الألماني يعاني من مشاكل هيكلية تراكمت منذ أعوام عدة، مؤكداً ضرورة إعطاء دفعة قوية للإصلاحات، بما يساعد على الدفاع عن تنافسية الصناعة الألمانية.
لم تسعف الظرفية الدولية هابيك كي يترجم الوعود التي بفضلها احتل حزبه المركز الثاني في الانتخابات التشريعية السابقة.
فعندما تولى حقيبة الاقتصاد والمناخ، كان يعتزم التخلي عن الفحم وطي صفحة الطاقة النووية تماماً، غير أن الحرب الروسية في أوكرانيا أربكت حساباته، حيث عاد عن خططه، واتخذ قراراً بمواصلة فتح مصانع الفحم والعمل بالطاقة النووية، في الوقت نفسه، الذي شرع في البحث عن مصادر طاقة بديلة تُجنب بلده الارتهان لروسيا.
لم تتردد وسائل إعلام غربية في اعتباره المستشار الحقيقي في الائتلاف الحالي. وهو منصب كانت رشحته له التوقعات قبل الانتخابات التي قادت الخضر إلى الحكومة، قبل أن يميل المنتسبون لحزبه لترشيح أنالينا بيربوك التي تولت معه رئاسة الخضر منذ 2018 لخلافة أنغيلا ميركل آنذاك.
انخرط هابيك البالغ من العمر 55 عاماً في المعترك السياسي في سن الأربعين، وصعد نجمه، بفضل ثقافته وجاذبيته، وتعبيره عن تصورات الخضر اليسارية، غير أن تدبير الشأن العام في الحكومة جعله يغير خطابه ما أفقده جزءاً من شعبيته، خاصة بسبب تصريحاته التي أبدى فيه نوعاً من التقليل من الصعوبات التي يعاني منها بعض أصحاب المهن الصغيرة، وعدم وفائه بتخفيف بعض من تكاليف استهلاك الغاز عن المستهلكين.
مارس هذا الأب لأربعة أطفال السياسة بعدما كانت اهتماماته تقوده إلى التخصص في الفلسفة. فقد حصل على دكتوراه في هذا التخصص وقاده اهتمامه بالأدب إلى ترجمة قصائد من الإنجليزية إلى الألمانية. تكوينه الأكاديمي يسهل عليه عملية التواصل مع وسائل الإعلام ومخاطبة الناس.
لا يتردد هابيك الذي لم يسلم من انتقادات أعضاء في حزب الخضر في شرح الأزمات التي تتعاقب على مواطنيه.
tقد تصدي لتوضيح كيف يؤدي إلغاء المحكمة الدستورية لصندوق الانتقال في مجال الطاقة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إلى إعادة النظر في سياسة الطاقة لأول قوة اقتصادية في أوروبا. وكذلك فعل عندما منعت المحكمة الدستورية توجيه أموال كانت مخصصة لمواجهة الأزمة الصحية لتغذية صندوق المناخ في العام الحالي.
لا ينشغل هابيك بوضعية الصناعة فقط، فهو يراقب التضخم الذي أفضى إلى رفع معدلات الفائدة، ما انعكس على استثمارات الشركات.
صحيح أن التوقعات تراهن على انخفاض التضخم إلى 2.8% وتراجع البطالة إلى 5.8%، ما سيؤدي إلى مساهمة الطلب على الاستهلاك الداخلي في تعويض الصادرات، غير أن المستهلكين يظلون حذرين تجاه الحكومة، بينما فضل جزء من الشركات الاستثمار في بلدان أخرى في ظل ارتفاع أسعار الطاقة.
سبق للرجل أن أكد في سياق طرح تساؤل "إيكونوميست"، أن نصف الناتج الإجمالي المحلي الألماني مصدره الصادرات، مشدداً على أنه عندما يضعف الاقتصاد العالمي، تتضرر ألمانيا أكثر من غيرها.
هذا يدفعه إلى التشديد على ضرورة تثبيت أسعار الكهرباء حتى 2030 لأكثر الصناعات استهلاكاً للطاقة عبر دعم نفقاتها.
يتطلع الوزير إلى دعم تنافسية صناعات ثقيلة مثل الكيمياء والتعدين في أوقات عصيبة ربما تشهد بداية أفول نجم "الماكينات الألمانية"، إذ تتسرب الاستثمارات الألمانية إلى الولايات المتحدة الأميركية تحديداً في هذه الظروف، التي تغري رؤوس الأموال بحوافز ضريبية وتوفير الطاقة وأجواء التشغيل.
لذا لا يكف عن الدعوة إلى إصلاح الضريبة التي تصيب الشركات التي يراها "غير تنافسية على الصعيد الدولي وغير صديقة للاستثمارات بما فيه الكفاية"، رغم إقراره بعدم وجود هوامش تحرك مالية، مشيراً إلى ضرورة التفكير في كيفية تمويل إعفاءات ضريبية وحوافز ضريبية للاستثمار في المستقبل، من أجل إنعاش الاقتصاد.
يقترح هابيك إنشاء صندوق استثمار بعدة مليارات، من أجل التخفيف من أعباء الشركات، غير أن وزير المالية كريستيان ليندنر يتصور أنه مثل ذلك التوجه غير مقنع، ما دام سيفضي إلى تعبئة ديون بالمليارات لتوفير إعانات للشركات، داعياً إلى تدابير لتنشيط الاقتصاد، والتنافسية، وخلق مرونة أكثر في سوق العمل، ووضع تشريع لحماية المناخ.
في يناير/ كانون الثاني الماضي، توقع هابيك، أن يصل عدد الوظائف الشاغرة في بلده إلى حوالي مليوني وظيفة، معتبراً أن عدد الوظائف الشاغرة يتجاوز العدد المعلن عنه، وهو عدد يقدر بـ700 ألف.
ذلك نقص يمثل في تصوره تهديداً للاقتصاد، داعياً بالإضافة إلى قانون هجرة القوى العاملة المعدل، إلى تشجيع الوظائف الإضافية، والبقاء فترة أطول في سوق العمل.
يؤمن هابيك بفضائل النقاش والحوار على طريقة الألمان الذين يميلون للتوافق. هذا ما يدفع المراقبين إلى انتظار الخطوات التي ستتخذها الحكومة كي يتجاوز الرجل "المتعب" حالة الركود.
فهل تكفي "القهوة" لإنعاش ثالث أكبر اقتصاد في العالم؟