يتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لآثار سلبية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر ولعلّ أهمها حالة الغموض وعدم اليقين من المستقبل، فالغموض أكبر عدو للاقتصاد والمستثمرين.
هل ستبقى الحرب محصورة في غزة؟ أم ستتوسع إلى لبنان؟ هل ستتدخل إيران؟ هل ستُحقق حكومة الحرب أهدافها، وتعيد الأيام إلى ما قبل 7 تشرين الأول أم لا؟
يقف أصحاب الأموال حائرين أمام حيازاتهم المالية واستثماراتهم، فهل يكون القرار الصائب هو التخارج من السوق وتسييل الاستثمارات أم البقاء والتحمل؟
يقوّض الغموض من إمكانية التوقع بمصير النشاط التجاري والاستهلاك والاستثمار وقيمة العملة، وهو ما يزيد من الخسائر وقدرة الشركة على الصمود وتعقيد الحسابات.
وإضافة للغموض وعدم اليقين هناك الانعكاسات المباشرة على الاقتصاد مثل ارتفاع الأسعار ومعدلات الفائدة والبطالة والعجز التجاري والدين العام وسعر صرف العملة أمام العملات الأجنبية.
لا ثقة بإسرائيل بعد اليوم
ابتداءً لا بد من التطرق إلى مؤشر الثقة كأحد المؤشرات الاقتصادية المهمة التي تتأثر جراء الحرب، والأساس أن كل شيء قائم على هذه الكلمة في اقتصاد اليوم، فالأموال والاستثمارات والحيازات تزدهر وتنشط في أي بلد تبعاً للثقة بقرارات الحكومة والاقتصاد والسوق والمؤشرات الكلية، ومع ارتفاع ثقة المستثمرين بالمؤسسات والسندات والأسهم تنهال الأموال والاستثمارات عليها، وتهرب في حال فقدان الثقة.
لا تكترث الشركات بالمستقبل السياسي لرئيس الحكومة بقدر اهتمامها في تحقيق الربح وتوفر أرضية مناسبة للعمل والحفاظ على جسور الثقة مع الحكومة.
وبالعودة إلى 7 تشرين الأول/ أكتوبر فقد فشلت حكومة بنيامين نتنياهو في حماية أصول واستثمارات الشركات ورجال الأعمال، وتعمّق شرخ الثقة مع الدخول في الحرب والخسائر التي يمنون بها يومياً.
أول مؤشرات زعزعة الثقة بالكيان جاءت من وكالات التصنيف الائتمانية حيث خفّضت وكالة ستاندرد آند بورز نظرتها المستقبلية للاقتصاد الإسرائيلي من مستقرة إلى سلبية، وتوقعت الوكالة انكماش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 5% في الربع الرابع من العام الجاري على أساس فصلي، ووضعت وكالة موديز لخدمات المستثمرين تصنيف ديون دولة الاحتلال قيد المراجعة لخفض التصنيف.
كما صنّفت وكالة "فيتش" البلاد تحت المراقبة السلبية. وقالت إن التصعيد الواسع النطاق، بالإضافة إلى الخسائر البشرية، يمكن أن يدفعا "إسرائيل" إلى إنفاق عسكري كبير وتدمير في البنية التحتية وتغيير مستدام في معنويات المستهلكين والاستثمار.
أما بنك "جيه بي مورغان" الأميركي فتوقع أن ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 11% على أساس سنوي في الربع الأخير من العام الجاري.
إذن، يواجه قادة الاحتلال جبهتي حرب وليست واحدة، الأولى ضد المقاومة التي ترى نفسها مع الأسرى والشعب الفلسطيني عائدين إلى قراهم ومنازلهم وحقولهم التي شرّدوا منها قبل 75 عاماً، وهو تهديد وجودي للكيان الإسرائيلي، حيث خرجت أصوات انتقدت الحكومة الإسرائيلية في طريقة تعاطيها مع الأسرى والقطاع بالعموم.
ومن ثم فإن مصطلح "النزوح" لم يعد لصيقاً بالفلسطينيين وحدهم حيث بات الإسرائيليون نازحين أيضاً.
ضربت المقاومة صميم العقيدة الصهيونية القائمة على الإحلال وتشجيع الهجرة اليهودية إلى "أرض الميعاد"، إذ يهاجر الكثير من الإسرائيليين اليوم هجرة عكسية بلا عودة، يبيعون منازلهم وأعمالهم متجهين إلى قبرص واليونان وتايلاند، وقد أشار استطلاع للرأي إلى أن 33% من سكان "إسرائيل" يفكرون عملياً بالهجرة العكسية والانتقال إلى العيش في أوروبا وأميركا بسبب حكومة نتنياهو المتطرفة وسياساتها.
أما الجبهة الأخرى فهي جبهة اقتصادية لا تقلّ شأنا عن الأولى، إذ يحمّل المستثمرون والاقتصاديون حكومة الحرب خسائرهم وحالة عدم الاستقرار في استثماراتهم وأعمالهم بعدما تم استدعاء الكثير من العمال إلى جيش الاحتياط وآخرين يعملون من منازلهم، وغيّرت الكثير من الشركات نشاطاتها لتصبح عن بعد، بالإضافة إلى خلو الشوارع والأسواق والمراكز التجارية من السيّاح والمستهلكين.
وقد أظهر استطلاع رأي قامت به منظمة "ستارت أب نيشن سنترال" أن نحو 70% من الشركات الناشئة حوّلت أموالها أو جزءًا منها إلى خارج دولة الاحتلال، وكشف الاستطلاع أن هذه الشركات أخذت عدة تدابير مالية وقانونية تشمل نقل الأرصدة النقدية إلى الخارج، وتغيير مكان تسجيل الشركة، ونقل الموظفين أو فصلهم.
خسارة 250 مليون دولار يومياً
صرّح وزير المالية في دولة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتس، أن التكلفة المباشرة للحرب تبلغ مليار شيكل يومياً (250 مليون دولار)، ولا شك في أن الحرب تلقي بظلالها على كافة القطاعات، إلا أن هناك قطاعات تبدي حساسية أكثر من غيرها وتحوز اهتماماً ووزناً كبيراً في الناتج المحلي، مثل قطاع التكنولوجيا الفائقة والسياحة.
تمثل صناعات التكنولوجيا 18% من الناتج المحلي الإجمالي لـ"إسرائيل" ونصف إجمالي الصادرات، وقد باتت هذه الصناعة على المحك مع استدعاء ما يقدر بنحو 10 - 15% من القوى العاملة في مجال التكنولوجيا للخدمة في صفوف قوات الاحتياط، وفي ظل توجيه الأموال نحو القطاعات العسكرية ستعاني المشاريع الريادية من نفاذ أموالها، ما قد يعرّضها لخطر الإفلاس والتأثير سلباً على صورة القطاع التكنولوجي لـ"إسرائيل".
وفي استطلاع رأي أجرته بلومبيرغ مع 500 شركة تقنية، نجد أن ما يقرب من 250 شركة أفادت بإلغاء أو تأخير اتفاقية استثمار وأكثر من 70% من الشركات أشارت إلى إنه تم تأجيل أو إلغاء مشاريع كبيرة.
في قطاع البناء توقفت الرافعات في العديد من المدن والبلدات عن العمل، وتشير تقارير إلى أن توقف هذا القطاع عن العمل يكلف الاقتصاد ما يقدر بنحو 37 مليون دولار يومياً. أما في القطاع البنكي فقد هوت أسهم مصارف كبرى بما يتراوح بين 17 – 22% منذ بداية الحرب.
وباتت الأسهم الإسرائيلية الأسوأ أداء في العالم حيث انخفض المؤشر الرئيسي في تل أبيب بنسبة 16% من حيث قيمته بالدولار، مع خسارة ما يقرب من 25 مليار دولار من قيمته خلال ثلاثة أسابيع فقط.
على صعيد الاستهلاك، فقد انخفضت مشتريات بطاقات الائتمان بنسبة 12% خلال أسبوع مع تراجع حاد في القطاعات جميعها تقريباً، وارتفعت أسعار العديد من السلع الأساسية في السوق بمعدل 10% تقريباً، في حين ارتفعت بعض المواد بنحو الضعف جراء توقف نشاط الاستيراد، حيث ارتفع سعر طن العلف من 1500 شكيل إلى 2800 شيكل، وكيلو لحم العجل ارتفاع من 17 إلى 25 شيكل.
وجراء عدم ذهاب العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر إلى الأعمال، ومنع 130 ألف عامل من الضفة الغربية للعبور إلى داخل إسرائيل للعمل، تعاني قطاعات الزراعة والبناء والصناعات الغذائية من شلل جراء نقص الأيدي العاملة.
وبحسب إحصاءات اتحاد أرباب الصناعة في "إسرائيل" فإن سوق العمل يتكبد خسائر بقيمة 4.6 مليارات شيكل (1.2 مليار دولار) أسبوعياً، نتيجة عدم توفر الأيدي العاملة والتعبئة الواسعة لقوات الاحتياط، حيث تشير التقديرات إلى أن أول أسبوعين للحرب لم يتوجه حوالي 1.3 مليون عامل إلى أعمالهم.
للمرة الأولى تشير التقارير الاقتصادية المحلية والدولية بخطورة ما يمر به الاقتصاد الإسرائيلي، وأن ما يجري ليس فسحة، إذ من المحتمل تعطيل 1.8 مليون عامل يشكلون حوالي 41% من القوى العاملة في "إسرائيل"، ووقوع الاقتصاد في حالة ركود، وإغلاق منظومة التعليم ومعظم الشركات وإقرار العمل عن بعد.
ومن المتوقع أن تبلغ الخسائر أكثر من 18 مليار دولار، وأن يتخطى عجز الموازنة العامة 20 مليار دولار في عام 2024. وأن تصل تكلفة التعويضات للضحايا والأضرار إلى 4.25 مليارات دولار، كما ستؤدي الحرب إلى خسائر عائدات الضرائب بقيمة 7.75 مليارات دولار.
هذه المرة ليست ككل مرة، لن يخرج الاقتصاد الإسرائيلي سليماً. سيعاني جراء هبوط المؤشرات الاقتصادية، وسيدق ناقوس الخطر على الكيان مع تنامي موجات الهجرة العكسية، وقد يبذل جهوداً أكبر لإغراء اليهود حول العالم للهجرة إلى "إسرائيل".
أعاد الفلسطينيون الحرب إلى عام 1922 بين أهل الأرض ومغتصبين جاؤوا إليها، وستكون الغلبة هذه المرة لمن يصبر أكثر، ويحقق ضربات نوعية أكبر والضربة الاقتصادية إحداها.