بحلول نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، اتضحت الاتجاهات العامّة لأبرز المؤشّرات الماليّة والنقديّة، التي تعبّر عن وضعيّة الاقتصاد اللبناني في مطلع هذا العام. ومع انقضاء الأسبوع الأول من شهر فبراير/ شباط الحالي، كان قد مرّ أربعة أشهر بالتمام والكمال على بدء المواجهات في الجنوب اللبناني.
وهذا ما يفتح الباب على مناقشة التحوّلات التي طرأت على الاقتصاد المحلّي أخيراً، بالإضافة إلى التحديات التي ستتركها التوتّرات في الجنوب على امتداد العام الراهن.
المؤشّر النقدي الأهم، الذي يحرص على تتبّعه جميع المقيمين في لبنان، يرتبط بسعر الصرف في السوق الموازية، الذي يحدّد القيمة الشرائيّة للمداخيل بالعملة المحليّة، والذي يؤثّر مباشرةً في أسعار السلع المستوردة.
بحلول بداية هذا الشهر، يكون قد مرّ ستّة أشهر على استقرار سعر صرف الدولار عند مستويات شبه ثابتة تقلّ عن 90 ألف ليرة، بعدما سبق ذلك تحسّنات تدريجيّة في قيمة الليرة منذ نحو عشرة أشهر. وهذا ما مثّل تطوّراً إيجابيّاً لم تشهده السوق منذ بدء الأزمة في أواخر عام 2019.
على أنّ أهميّة ما يجري على المستوى النقدي لا تقتصر على استقرار سعر صرف الليرة. فخلال الفترة ذاتها، ومنذ انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة في بداية شهر أغسطس/ آب الماضي، تمكّن المصرف المركزي من زيادة قيمة احتياطاته بالعملات الأجنبيّة بنحو 793 مليون دولار، ما رفع حجم الاحتياطات المتوافرة بنسبة 9%.
بصورة أوضح، لم يكتفِ المصرف المركزي بتحقيق الاستقرار النقدي المطلوب بشدّة في هذه المرحلة، بل فعل ذلك من دون الاستمرار باستنزاف احتياطاته الباقية للدفاع عن سعر صرف الليرة.
يُعتبر وقف استنزاف احتياطات المصرف المركزي مؤشّرًا بالغ الأهميّة بالنسبة إلى المودعين في لبنان بشكل خاص
يُعتبر وقف استنزاف احتياطات المصرف المركزي مؤشّرًا بالغ الأهميّة بالنسبة إلى المودعين في لبنان بشكل خاص، لكون هذه الاحتياطات تمثّل آخر ما بقي من دولارات المصارف التجاريّة التي أُودِعَت في المصرف المركزي.
وأحد أبرز تجليات الاستنزاف التي شهدها لبنان خلال الأزمة، تمثّل بخسارة المصرف المركزي لأكثر من 72% من احتياطاته، منذ بداية الأزمة في أواخر عام 2019 وحتّى نهاية ولاية رياض سلامة. ولذلك، يُعتبر توقّف هذا النزف، وتزايد حجم الاحتياطات منذ بداية أغسطس وحتّى اليوم، نهاية سارّة لذلك المسار شديد الخطورة.
على هذا النحو، شهد لبنان انعطافة مهمّة على مرّ الأشهر الماضية، في كل ما يرتبط بمؤشّرات الوضع النقدي. وهذا يرتبط تحديداً بالسياسات المستجدة التي اعتمدها المصرف المركزي، بعد انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة.
ومن هذه السياسات، مثلًا، لجم عمليّات إقراض القطاع العام بالليرة والدولار، والتوقّف عن الضخ العبثي وغير المحسوب للدولارات في سوق القطع، فضلاً عن التشدّد في الاستجابة لطلبات الطبقة السياسيّة الحاكمة.
غير أنّ جميع هذه الإيجابيّات تتوازى اليوم مع تحديات نقديّة خطيرة لم يتمكّن المصرف المركزي من تجاوزها، حتّى هذه اللحظة. فالمصرف لم ينجح حتّى هذه اللحظة في إطلاق منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، التي يفترض أن تعكس سعر صرف شفّافاً وموحّداً لليرة اللبنانيّة، وفقاً لموازين العرض والطلب.
وبغياب هذه المنصّة، سيبقى سعر صرف السوق الموازية خاضعاً لآليّات تدخّل مصرف لبنان غير الشفّافة وغير المعلنة، الموروثة من نمط عمل الحاكم السابق رياض سلامة. لذلك، سيبقى إطلاق هذه المنصّة الجديدة الموعودة تحدياً يرافق قيادة المصرف المركزي خلال الأشهر المقبلة من هذه السنة.
أمّا التحدّي النقدي الأخطر والأكبر، فيكمن في تفشّي نطاق اقتصاد النقد الورقي، الذي بات يمثّل في مطلع عام 2024 أكثر من نصف الناتج المحلّي. وهذا يعود طبعاً لاستمرار الأزمة المصرفيّة، وتأخّر إقرار التشريعات المطلوبة لإعادة هيكلة القطاع المالي.
التحدّي النقدي الأخطر والأكبر، فيكمن في تفشّي نطاق اقتصاد النقد الورقي، الذي بات يمثّل في مطلع عام 2024 أكثر من نصف الناتج المحلّي
ومن المعلوم أن المصرف المركزي سيضطر إلى التعامل مع مشكلة اقتصاد النقد الورقي خلال هذا السنة بالذات، مع تصاعد احتمالات إدراج لبنان على القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي، بفعل ارتفاع مخاطر تبييض الأموال في العمليّات الخارجة عن رقابة النظام المالي الشرعي.
وفي ما يخصّ المؤشّرات النقديّة أيضاً، من المهم لفت النظر إلى أنّ حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة كان قد انخفض -حتّى منتصف الشهر الماضي يناير- بنسبة 29%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
أي بمعنى آخر، كان المصرف المركزي قد تمكّن من امتصاص جزء كبير من السيولة المتداولة بالليرة، وهو ما مثّل مجددًا تطوّرًا إيجابيًا يسمح بالحد من المضاربات على سعر صرف العملة المحليّة، خلال العام الراهن.
وفي المؤشّرات المصرفيّة المتاحة، يتبيّن أنّ حجم التسليفات المصرفيّة الممنوحة للقطاع الخاص لم يعد يوازي هذه السنة أكثر من 7.72 مليارات دولار، وهو ما يقلّ بأكثر من 80% عن حجم التسليفات الممنوحة قبل الأزمة.
وهذا التطوّر يعود طبعًا لاستمرار الأزمة المصرفيّة، واقتصار عمل المصارف على تحصيل قيمة القروض الممنوحة، من دون منح أي تسليفات جديدة. واستمرار هذا الوضع، خلال العام الراهن، سيعني حتماً حرمان القطاعات الاقتصاديّة التمويل والتسهيلات التجاريّة، التي يفترض أن تتوافر في أي اقتصاد طبيعي.
التحدّي الأكبر هذه السنة سيكمن في كيفيّة التعامل مع أضرار المواجهات العسكريّة في الجنوب اللبناني. فبحسب أرقام الحكومة اللبنانيّة، طاول القصف الإسرائيلي المناطق المأهولة في أكثر من 46 قرية لبنانيّة، وهو ما أدّى إلى تدمير 10% من الوحدات السكنيّة في هذه المناطق. وبشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أنّ عدد المنازل المدمّرة تخطّى هذه اللحظة الألف منزل، فيما تستمر هذه الحصيلة بالارتفاع على نحوٍ يومي.
التحدّي الأكبر هذه السنة سيكمن في كيفيّة التعامل مع أضرار المواجهات العسكريّة في الجنوب اللبناني
المشكلة الأساسيّة هنا، عدم امتلاك الحكومة لأي مصدر من مصادر التمويل للتعامل مع هذه الخسائر، خصوصاً على مستوى تعويض أصحاب المساكن المدمّرة، أو حتّى توفير المساكن المؤقّتة لهم على المدى القصير.
مع الإشارة إلى أنّ كلفة هذه الأضرار الماديّة تخطّت حتّى اللحظة حدود الـ 1.2 مليار دولار، من دون احتساب الأضرار الناتجة من توقّف العجلة الاقتصاديّة في المناطق التي طاولها التهجير.
لم تضع الحكومة اللبنانيّة حتّى الآن أي تصوّر لكيفيّة معالجة هذه الأزمة. لا بل لم تشمل الموازنة الأخيرة التي أقرّها المجلس النيابي أي بنود أو اعتمادات للتعامل مع الواقع المستجد، وإن على مستوى التعامل مع الحاجات اللوجستيّة أو الصحيّة الطارئة التي يفرضها الواقع المتوتّر في جنوب لبنان.
ولهذا السبب، يخشى كثيرون أن يكون ذلك مقدّمة لتغييب الدولة عن دورها في التعامل مع التداعيات الاقتصاديّة التي ستتركها هذه المواجهات، تماماً كما غابت الدولة عن الكثير من الأزمات خلال السنوات الماضية.
في النتيجة، يبدو أن الأشهر المقبلة ستُزاوج ما بين الاستفادة من بعض التطوّرات النقديّة الإيجابيّة، التي تترك الارتياح على المستوى المعيشي، والكثير من التحديات الخطيرة، التي سيكون من شأنها الحؤول دون دخول البلاد مسار التعافي المالي.
ولعلّ العامل الأساسي الذي سيفاقم من خطورة هذه التحديات، سيبقى تعثّر تطبيق الخطّة الماليّة الشاملة الحكوميّة، التي كان يفترض أن تنسّق إقرار التشريعات والمراسيم المطلوبة لمعالجة الأزمات المصرفيّة والماليّة الداهمة. فمن دون هذه الخطّة، لا تملك الدولة حالياً أي خريطة طريق للتعامل مع مشاكل لبنان المتراكمة.