- التقرير يكشف تحفظ البنك الدولي عن تقديم مساعدات مباشرة لغزة بسبب عدم موافقة الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، مما يعكس الطبيعة المسيّسة للمساعدات.
- يُبرز التقرير الحاجة الماسة لجهود التعافي وإعادة الإعمار، مشددًا على ضرورة التشاور مع السلطات الدولية والإقليمية وضمان نهج شامل وتشاركي في عملية التعافي.
كعادته، لم يفوِّت البنك الدولي فرصة تأكيد حيوية دوره في تقييم تكلفة الأضرار التي لحقت بقطاع غزة جرّاء العدوان الإسرائيلي الجائر، مُقدِّماً بذلك فاتورة للمانحين الدوليين الراغبين في إعادة إعمار غزة.
فقد أصدر البنك الدولي تقريراً في 29 مارس/ آذار 2024 بالتعاون مع الأمم المتّحدة والاتّحاد الأوروبي تحت عنوان "تقييم مؤقَّت للأضرار في قطاع غزة" Gaza Strip Interim Damage Assessment أفاد فيه بأنّ الصراع الدائر في غزة كلَّفها أضراراً في البنية التحتية تُقدَّر بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي المشترك للضفة الغربية وقطاع غزة في عام 2022"، علماً أنّ المصطلحات المستخدمة في التقرير كالصراع الدائر والحرب بين حماس وإسرائيل لا تعدو كونها مجرَّد غطاء شفّاف مهترئ الحافات للتستُّر على بشاعة حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني بحقّ الشعب الفلسطيني الأعزل.
كشف هذا التقرير بأنّ 72 في المائة من تلك الأضرار تتركَّز في قطاع المباني السكنية، في حين قُدِّرت نسبة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الخاصة بقطاعات التجارة والصناعة والخدمات بتسعة في المائة، وبلغت حصّة البنية التحتية للخدمات العامة مثل التعليم، والمياه والصرف الصحي والنظافة والصحة والطاقة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وخدمات البلدية والنقل من الأضرار 19 في المائة.
وتحديداً، قدَّر التقرير تكلفة الأضرار بحوالي 13.29 مليار دولار في قطاع الإسكان، 1.65 مليار دولار في قطاع التجارة والصناعة والخدمات، 629 مليون دولار في قطاع الزراعة، 554 مليون دولار في قطاع الصحة، 503 ملايين دولار في قطاع المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، 411 مليون دولار في قطاع البيئة بما في ذلك إزالة الأنقاض، 258 مليون دولار في قطاع النقل، و341 مليون دولار في قطاع التعليم.
كما أفاد هذا التقرير بأنّ حوالي 80 في المائة من تلك الأضرار تكبَّدتها محافظات غزة وشمال غزة وخان يونس، فقد قُدِّرت تكلفة الأضرار في بلدية غزة وحدها بـ 7.29 مليارات دولار، تليها جباليا بمبلغ 2.01 مليار دولار، وخان يونس بـ 1.82 مليار دولار.
قام البنك الدولي بتقييم تلك الأضرار وتحديد تكاليفها خلال الفترة الممتدّة ما بين أكتوبر/ تشرين الأوّل ويناير/ كانون الثاني الماضيين، الأمر الذي ينمّ عن أنّ مبلغ 18.5 مليار دولار لا يزال بعيداً عن التكلفة الحقيقية لبشاعة ما يحدث في قطاع غزة من دون حسيب أو رقيب.
بعد إنجاز مهمّته الرئيسية التي أنشئ من أجلها والمتمثِّلة أساساً في تقديم القروض لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، التفت البنك الدولي إلى دول أخرى وأصبح مهتمّاً بتقديم المساعدات المالية والتقنية للبلدان النامية، ولا سيَّما تلك التي أرَّقتها الأزمات ومزَّقتها الحروب والصراعات، لكن مساعداته مُسيَّسة أيضاً ومشروطة ولا تختلف كثيراً عن نظيراتها المُقدَّمة من صندوق النقد الدولي.
فمن ناحية، صرَّح البنك الدولي في تقريره بأنّ أكثر من نصف سكان غزة على حافة المجاعة، وأكَّد معاناة جميع سكان القطاع انعدام الأمن الغذائي الحادّ وسوء التغذية، واعترف بأنّ فلسطينيي غزة يشكِّلون 80 في المائة من جميع الأشخاص الذين يعانون المجاعة في جميع أنحاء العالم، لكنّه من ناحية أخرى لم يحرِّك ساكناً لتقديم مساعدات لسكان قطاع غزة، لأنّه لم يتلقَّ الضوء الأخضر بعد من الإدارة الأميركية والاتّحاد الأوروبي، أهمّ الأطراف الداعمة للكيان الصهيوني في حربه على قطاع غزة التي ليس لها أي مبرِّر منطقي سوى الاستيلاء على القطاع وثرواته.
يعترف البنك الدولي في تقريره بأنّ الصدمة التي يتعرَّض لها اقتصاد غزة نتيجة الحرب تُعدّ واحدة من أكبر الصدمات التي لوحظت في التاريخ الاقتصادي الحديث، ويؤكِّد معاناة غالبية سكان غزة الفقر متعدِّد الأبعاد ووقوع 74 في المائة منهم في براثن البطالة، ويجزم بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 86 في المائة في الربع الأخير من عام 2023.
ويُقرّ بأنّ التعافي وإعادة الإعمار سيتطلَّبان جهداً كبيراً يستمرّ لسنوات، لكنّه حصر نفسه، في المقابل، في دائرة الدمى التي يحرِّكها البيت الأبيض عندما أشار إلى أنّ إجراءات التعافي المبكِّر، كتقديم المساعدات الإنسانية والغذائية وتوفير المأوى واستئناف الخدمات الأساسية في قطاعات الطاقة والمياه والاتصالات والصحة والتعليم، وإزالة ما يقرب من 26 مليون طنّ من الأنقاض، يجب أن تبدأ بمجرَّد أن يسمح الوضع بذلك.
والأسئلة التي تُقحم نفسها بقوّة في هذه النقطة من النقاش هي: متى سيسمح الوضع بذلك؟، من الذي سيسمح للوضع بأن يسمح بذلك؟ وما هي طلباته عدا اجتثاث حركة حماس التي لم تكن سبباً في أغلب ممارسات الاحتلال كالصراع في الضفة الغربية على سبيل المثال؟، ولمَ لم يتشرَّب التقرير ما يكفي من الشفافية التي يتغنَّى بها البنك الدولي ليكشف عن الأسباب الحقيقية التي تحول دون سماح الوضع بذلك؟
كعادته، أتقن البنك الدولي فنّ التنصُّل من وضع الأصبع على موضع الألم الحقيقي في تقريره، مفضِّلاً تسليط الضوء على ما أظهرته التجارب العالمية وأفضل الممارسات عند وضع خطط التعافي، كالموازنة بين الاحتياجات العاجلة والأهداف المتوسِّطة والطويلة الأجل، وضمان اتِّباع نهج لإعادة البناء اتباعاً أفضل وأكثر مرونة، واستهداف الفئات الأكثر ضعفاً، وضمان التخطيط الشامل والتشاركي من خلال نهج يشمل المجتمع بأكمله.
عند سرده لما ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند تطوير خطط التعافي، صرَّح البنك الدولي علانية بأنّ التمويل والدعم من شركاء التنمية، بما في ذلك من المنطقة، يُعدّ ضرورياً لترسيخ جهود التعافي وإعادة الإعمار، وهنا تتجلَّى البجاحة والوقاحة.
خلاصة القول، لقد اعتاد البنك الدولي والقوى العظمى المتحكِّمة فيه تولِّي دول عربية أخرى وتحديداً الخليجية منها، بناء ما تهدمه إسرائيل. وعند قراءة التقرير، نلاحظ تجاوز البنك الدولي حدود البجاحة والوقاحة وتحديداً عند تشديده على ضرورة التشاور مع السلطات المعنية، فلا يكفي من وجهة نظره أن يقوم المانحون من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بضخّ أموال ضخمة، بل ينبغي لهم التشاور مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي خاصّة والإدارة الأميركية والاتّحاد الأوروبي عامة لضمان القيام بعملية إعادة الإعمار على النحو الذي يُرضي تلك السلطات المعنية.