أبقى البنك المركزي المصري، في اجتماعه في يونيو/ حزيران الماضي، معدلات الفائدة الأساسية على الجنيه عند مستوى 11.25% - 12.25% الذي وصلت إليه بعد رفع 300 نقطة أساس (3%) اعتباراً من مارس/ آذار الماضي. وعلى الرغم من ذلك، أعلنت أكثر من وحدة أبحاث توقعها مزيداً من الرفع في الاجتماع المقبل، المقرر له آخر أيام الأسبوع الحالي.
وتوقعت إدارة بحوث شركة "مباشر لتداول الأوراق المالية" أن يرفع البنك المركزي معدل الفائدة 1%، بينما توقعت إدارة البحوث بشركة إتش سي للأوراق المالية والاستثمار، الأكثر تأثيراً والأوسع انتشاراً في السوق المصرية، رفع 2%. وجاء توقع الشركتين بعد إعلان البنك المركزي بيانات التضخم المصري، التي أظهرت ارتفاع المعدل السنوي للتضخم الأساسي ليسجل 15.6% في شهر يوليو/ تموز، بعدما كان 14.6% في الشهر السابق.
ورغم الخبرة المصرية مع معدلات تضخم أعلى من ذلك كثيراً، خاصة في الفترات التي أعقبت تخفيض السعر الرسمي للعملة أمام الدولار على نحو ما حدث قبل ما يقرب من خمسة أشهر، تبدو تفاصيل البيانات التي تسببت في تسجيل هذا المستوى معبرة بصورة أفضل عن تأثير ارتفاع الأسعار على جيوب المصريين، الذين يستحوذ قسم الأطعمة والمشروبات على ما لا يقل عن 30% من إنفاقهم.
وأظهرت بيانات البنك المركزي ارتفاع أسعار الخبز في مصر في يوليو بنسبة 45.9% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، وارتفاع أسعار الأسماك بنسبة 34.2%، وأسعار الزيوت بنسبة 31.6%، وأسعار الألبان والجبن والبيض بنسبة 27.2%، وأسعار السكر بنسبة 24.3%، وأسعار اللحوم والدواجن بنسبة 23.9%، وأسعار مجموعة منتجات غذائية أخرى بنسبة 21.8%، وذلك ضمن قسم الأطعمة والمشروبات الذي ارتفعت أسعاره في المجمل بنسبة 23.8%.
ولم يكن قسم الأطعمة والمشروبات وحيداً في تسجيل الارتفاعات، حيث ارتفعت أسعار مجموعة التنظيف والإصلاح وتأجير الملابس بنسبة 16.2% مقارنة بالعام الماضي، وارتفعت أسعار مجموعة المياه والخدمات المتنوعة المتعلقة بالمسكن بنسبة 28.2%، وأسعار خدمات مرضى العيادات بنسبة 12.9%، وخدمات النقل الخاص بنسبة 22%، والرحلات السياحية بنسبة 41%، والخدمات الثقافية والترفيهية بنسبة 31.9%، والصحف والكتب والأدوات الكتابية بنسبة 17.7%، والتعليم الابتدائي بنسبة 19.5%، والتعليم العالي بنسبة 16.7%، والوجبات الجاهزة بنسبة 20.2%.
هذه بعض أمثلة من ارتفاعات الأسعار ما بين شهري يوليو من العام الحالي والعام الماضي، وأغلبها سلع أساسية للمواطنين، لا يمكن الاستغناء عنها. ويقول كثيرٌ من المواطنين إن الأسعار في المحال تعكس ارتفاعات أكبر كثيراً مما تظهره بيانات البنك المركزي.
الأمثلة السابقة تبرز حقائق كارثية على المواطن المصري، الذي عانى على مدار العقود السابقة من تركيبة اقتصادية "شاذة"، تتمثل أهم ملامحها في اقتصاد يقوم على استيراد أكثر من ثلثي ما يأكله ويلبسه ويركبه ويستخدمه في عمله المواطن المصري، فينتج عن ذلك عجز كبير في الحساب الجاري، يتسبب في إثقال كاهل الدولة بالديون، ويضغط على عملتها في كل عام. وأمام تلك التحديات التي يفرضها صانعو السياسة الاقتصادية في البلاد، أو يستسلمون لها، تضطر السلطات النقدية لتخفيض قيمة العملة مراراً وتكراراً، فيقاسي المواطنون ويلات التضخم، وتتراجع قيم أصولهم ومدخراتهم وثرواتهم.
تتراجع أيضاً مستويات معيشة المصريين مع الانخفاض المتتالي لقيمة الجنيه في الأسواق، بلا فرق يذكر بين السوق المحلية، التي تستورد أغلب احتياجاتها من الخارج، ويتم التسعير فيها في أغلب الأوقات على أساس توقعات ارتفاع سعر الدولار خلال الفترة المقبلة، والسوق الخارجية، التي يزداد الوصول إليها صعوبة عاماً بعد الآخر.
وبينما لا تبدو الأمور متجهة نحو التحسن، ومع تزايد الفجوات والعجوزات في كل عام، على الأقل خلال السنوات العشرة الأخيرة، تبدو مستويات معيشة المصريين مرشحة للتدهور خلال الفترة المقبلة، وهو ما تظهر علاماته في تزايد عدد التقارير الصادرة من جهات محلية، والتي تؤكد ارتفاع سعر الدولار قريباً، مع تأكيد أهم إعلاميي النظام أن "الأيام المقبلة ستكون شديدة الصعوبة" على المصريين.
ولو افترضنا أنّ المواطن المصري، من الطبقة المتوسطة، يصنع المعجزات ليستثمر مدخراته، فيحصل على عائد يقدر بعشرين في المائة، نجد التحركات الأخيرة في سعر الجنيه مقابل الدولار منذ شهر مارس الماضي وحتى الآن تطيح بكل العائد الذي حصل عليه، وفي فترة لم تتجاوز نصف العام. أما المواطن الذي لا توجد لديه مدخرات، من الطبقات الأدنى والأفقر، فلا عزاء له وهو يرى تكاليف المعيشة ترتفع عليه، من دون حول له أو قوة. والأسبوع الماضي قرأت لمواطن مصري شكواه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، منهياً إياها بقوله "نحن نجري بأقصى سرعة، من أجل الحفاظ على مكاننا، بلا أي تقدم ولو لخطوة واحدة".
لن تحسن إنجازات الطرق والجسور، ولا فنادق القوات المسلحة التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، ولا أكبر جامع وكنيسة وبرج وسارية، ولا حفر القناة الجديدة أو مشروع "المونوريل" أو القطار السريع، من نظرتنا للاقتصاد المصري وما أنجزه خلال السنوات الأخيرة.
ويقول بعضهم إنّ ما أُنفق على هذه المشروعات، التي هي بالتأكيد لا تسمن ولا تغني من جوع، لو كان أُنفق على مشروعات إنتاجية أخرى، تسمح بزيادة الصادرات أو بإيجاد بدائل محلية للواردات، لكان خيراً لنا جميعاً.
ارتفاع الأسعار في مصر ليس كارتفاعها في أميركا، فالأخير ما زال أقل من عشرة في المائة حتى الآن، وتبدو سياسات البنك الفيدرالي التقييدية قريبة من النجاح في الحدّ منه. ولو أخذنا في الاعتبار متوسط الدخل الأميركي الذي يتجاوز خمسة أضعاف نظيره المصري باستخدام مفهوم تعادل القوى الشرائية، ندرك جيداً معنى الفشل في تحسين مستويات معيشة المواطنين، والذي تعتبره أغلب الدراسات الهدف الأسمى الذي يسعى إليه واضعو السياسات الاقتصادية في أي بلد في العالم.