في 21 مارس الماضي، استيقظ المصريون على قرار البنك المركزي بتعويم الجنيه ليفقد أكثر من 15% من قيمته، ولم يمر العام حتى فوجئوا بتعويم ثان جرى في أكتوبر الماضي، وأسفر التعويمان عن فقدان العملة المصرية نحو 57% من قيمتها.
وفي أقل من عام جرى التعويم الثالث والذي جرى اليوم الأربعاء وأسفر عن حدوث خفض في قيمة الجنيه ليتراجع من 24.7 جنيها للدولار إلى نحو 26.5 جنيها، وبذلك تفقد العملة المصرية نحو 70% من قيمتها في فترة تقل عن 10 شهور، وهي نسبة تعادل تلك التي فقدتها عقب التعويم الاول الذي جرى في نوفمبر 2016.
السفه في الاقتراض جعل مصر ثاني أكبر مدين لصندوق النقد الدولي في العالم بعد الأرجنتين
إذاً، هناك مشكلة كبيرة أدت إلى تعويم العملة المصرية 3 مرات خلال فترة زمنية وجيزة، وهذه المشكلة تكمن في تبعات سفه الاقتراض الخارجي، والذي جعل مصر ثاني أكبر مدين لصندوق النقد الدولي في العالم بعد الأرجنتين، ورفع أعباء الديون الخارجية المستحقة على مصر خلال عام واحد، هو العام المالي الحالي، إلى 42.2 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي، وجعل الحكومة المصرية تلهث وراء المؤسسات الدولية ودول الخليج لتغترف مزيدا من القروض لسداد القروض المستحقة، وتفرط في أصول الدولة بأبخس الأثمان، والأخطر ترهن قرارها السياسي والاقتصادي للدائنين الدوليين.
دعونا نعترف أن تعويم العملة المصرية هو أحد شروط صندوق النقد الدولي مقابل تمرير القرض الأخير البالغة قيمته 3 مليارات دولار، وفي حال استمرار الحكومة في الاعتماد على الاقتراض الخارجي في سد الفجوات التمويلية وعجز الموازنة، فإن سيناريو التعويم سيتكرر، وربما خلال فترات زمنية أقصر في المرات المقبلة.
عملة وطنية يتم تعويمها ثلاث مرات خلال فترة تقل عن العام، في سابقة قلما تحدث في دولة من دول العالم، باستثناء عملات الدول التي أعلنت إفلاسها بالفعل كما هو الحال في لبنان، أو دول تشهد حروبا أهلية دموية كما هو الحال في سورية، أو دول تعرضت لعقوبات أميركية شديدة منعتها من حصد أي نقد أجنبي وحظر صادراتها النفطية مثلما الحال مع فنزويلا، أو في حال الدول التي ألغت التعامل بالعملة المحلية أصلا وقصرت التعامل على الدولار مثل زيمبابوي وبيرو والإكوادور.
لن أتحدث هنا عن التداعيات المباشرة لقرارات التعويم المتلاحقة للعملة المصرية، فالكل يعلم أن قرارا خطيرا كهذا يؤدي إلى حدوث قفزات في أسعار السلع خاصة المستوردة، وزيادة في معدل التضخم والغلاء، وضغوط إضافية على الجنيه والمدخرات الوطنية، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن، وزيادة معدلات الجوع والفقر والبطالة والجريمة والعشوائيات، وزيادة الدين العام، ورفع أسعار البنزين والسولار والغاز والمواصلات العامة، وفرض مزيد من الضرائب والرسوم الحكومية، والموت السريري لقطاع الصناعة. كل ذلك معروف للجهات الرسمية قبل المواطن.
متى تدرك الحكومة المصرية أن الاعتماد على القروض الخارجية والأموال الساخنة رهان خاسر، وأن المتغطي بصندوق النقد عريان
لكن السؤال الأول: متى تدرك الحكومة المصرية أن الاعتماد على القروض الخارجية والأموال الساخنة رهان خاسر، وأن المتغطي بصندوق النقد عريان، وأنه طالما ظلت مصر هي المستورد الأول للقمح والزيوت وغيرهما من السلع الغذائية في العالم ويتم تجاهل قضية الاكتفاء الذاتي من الحبوب فإن أزمة العملة مستمرة.
وأنه طالما يتم تمويل مشروعات العاصمة الإدارية وقطارات الأثرياء والكباري والطرق بالاقتراض الخارجي فإن العملة المحلية مرشحة لمزيد من الضعف، وأنه طالما تتجاهل الحكومة ملفات التشغيل والاستثمار المباشر وقطاع الصناعة الحيوي والمصانع المغلقة فإن الجنيه ذاهب إلى منطقة خطرة.
السؤال الآخر: ما الهدف من التعويم هذه المرة، هل مجرد الاستجابة لضغوط وتعليمات صندوق النقد الدولي، أم أن الخطوة تهدف إلى القضاء على السوق السوداء للعملة وتوحيد سوق الصرف الأجنبي، وإزالة العراقيل أمام عودة الاستثمارت الأجنبية والأموال الساخنة.
وإذا كان ذلك هو الهدف، فهل تتوافر سيولة دولارية في السوق تساعد في اختفاء المضاربات والتعاملات غير الرسمية، وتلبية احتياجات المستوردين، وبالتالي القضاء على ظاهرة تعدد أسعار الدولار، لأن عدم وجود هذه الوفرة يعني أن السوق السوداء ستقود سوق الصرف في الفترة المقبلة، وقد تجر البنك المركزي إلى تعويمات أخرى للجنيه، وهنا تكمن الخطورة.