بدأت شركات طاقة أوروبية في أخذ خطوات استباقية للالتفاف على أي حظر محتمل على النفط الروسي، لتمضي في صفقاتها بعيداً عن العقوبات، بينما يسيطر الانقسام العميق على قادة الاتحاد الأوروبي، حيال حظر الإمدادات الروسية.
رغم مضي أوروبا بالتحالف مع الولايات المتحدة في فرض عقوبات واسعة على روسيا طاولت مختلف مفاصل الاقتصاد وامتدت إلى الفحم أخيراً أحد مصادر الطاقة، فإنّ الأوروبيين يترددون كثيراً في أن تطاول العقوبات النفط والغاز الروسيين، فهناك دول أوروبية وغيرها أعلنت عن صعوبة استغنائها عن الإمدادات الروسية.
تأتي روسيا في المرتبة الثانية عالمياً في إنتاج النفط الخام، أي بنسبة 14% من إجمالي الإنتاج خلال العام الماضي، حسب ما ذكر معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، مشيراً في تقرير صدر في مارس/ آذار الماضي، إلى أن حوالي 60% من صادرات روسيا من النفط الخام تذهب إلى القارة الأوروبية، فيما تحصل آسيا على حصة تبلغ 35% منه.
وذكر موقع "أويل برايس" الأميركي المتخصص في الطاقة في تقرير له، أمس، أن اتخاذ قرار بشأن حظر النفط الروسي سيكون أكثر صعوبة على الأوربيين، مشيرا إلى أن الانقسام يسيطر على دول الاتحاد.
وتطالب بولندا ودول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) بفرض حظر على النفط الروسي، بينما تواصل ألمانيا، أكبر اقتصاد في القارة، معارضة ذلك، قائلة إنه من المستحيل استبدال الإمدادات الروسية على الفور، وأن وقف الواردات سيضر باقتصادها كثيراً، وحتى إذا جرى فرض حظر، فقد يكون حظراً تدريجياً للسماح لأوروبا بإيجاد بدائل لإمدادات النفط الروسية، كما أشارت صحيفة وول ستريت جورنال في تقرير.
وبشكل عام، اعتمد الاتحاد الأوروبي على روسيا في 26% من وارداته من النفط الخام، في عام 2020، وفقاً لمكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي "يوروستات". وفي ما يتعلق بالغاز الطبيعي، فإنّ الاعتماد أعلى من ذلك، ففي نفس العام، تلقى الاتحاد الأوروبي 46% من وارداته من الغاز الطبيعي من روسيا.
وكشف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، عقب اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ، يوم الاثنين الماضي، أن هناك دولاً في الاتحاد لا يمكنها الاستغناء على النفط الروسي.
وأضاف بوريل في مؤتمر صحافي: "دعونا لا نتوهم إذا توقفنا عن استيراد الغاز والنفط اليوم، فلن يوقف ذلك الجيش الروسي في الأسابيع المقبلة". وأشار إلى أن وزراء خارجية الاتحاد ناقشوا إمكانية حظر استيراد النفط الروسي، لكن "لم يتخذوا أي قرارات".
المخزونات الأوروبية تتراجع
وأظهرت بيانات من مؤسسة "يورو أويل ستوك" أن مخزونات الخام والمنتجات النفطية لدى شركات التكرير الأوروبية بلغت حوالي 1.01 مليار برميل في مارس/ آذار، منخفضة بنسبة 10.6% على أساس سنوي، لكنها مرتفعة حوالي 2% عن مستويات فبراير/ شباط.
وأشارت البيانات إلى أن استهلاك مصافي التكرير للخام بلغ 9.04 ملايين برميل يومياً الشهر الماضي، مرتفعا نحو 5% على أساس سنوي، لكنه منخفض 4% عن مستويات فبراير/شباط.
لكن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، قالت لدى إعلانها عن حظر الفحم الروسي، يوم الجمعة الماضي: "نعم، لقد حظرنا الآن الفحم. لكن الآن، علينا أن ننظر في النفط وعلينا أن ننظر في الإيرادات التي تحصل عليها روسيا من الوقود الأحفوري، وعلينا حقاً بذل جهد.. حتى نحد حقًا من مصدر عائدات روسيا من الوقود الأحفوري، يجب أن ينتهي هذا، وهذه هي الخطوة التالية التي سيتعين علينا اتخاذها معاً".
وتتعقد المساعي الأوروبية لحظر النفط الروسي بموقف منظمة أوبك التي أبلغت الاتحاد الأوروبي، يوم الاثنين، في أن العقوبات الحالية والمستقبلية على روسيا قد تخلق واحدة من أسوأ صدمات المعروض النفطي على الإطلاق وأنه سيكون من المتعذر استبدال الكميات المفقودة المحتملة في إمدادات النفط الروسي، مشيرة إلى أنها لن تضخ المزيد.
وعقد مسؤولون من الاتحاد الأوروبي محادثات في فيينا مع ممثلين لمنظمة البلدان المصدرة للنفط وسط دعوات بأن تزيد "أوبك" الإنتاج، في الوقت الذي يدرس الاتحاد الأوروبي عقوبات محتملة على النفط الروسي.
خسارة أكثر من 7 ملايين برميل
وقال الأمين العام لـ"أوبك" محمد باركيندو: "من المحتمل أننا قد نشهد خسارة أكثر من 7 ملايين برميل يوميا في صادرات روسيا من النفط وسوائل الوقود الأخرى نتيجة للعقوبات الحالية والمستقبلية أو إجراءات أخرى طوعية".
وأضاف باركيندو: "بالنظر إلى التوقعات الحالية للطلب فإن من المتعذر تقريبا استبدال خسارة بهذا الحجم في الكميات".
وقاومت "أوبك" دعوات من الولايات المتحدة ووكالة الطاقة الدولية لضخ المزيد من الخام لتهدئة الأسعار التي وصلت في مارس/آذار الماضي إلى أعلى مستوى في 14 عاماً، بعد أن فرضت واشنطن وبروكسل عقوبات على موسكو في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وحظرت أستراليا وكندا والولايات المتحدة، وهي أقل اعتمادا من أوروبا على الإمدادات الروسية، بالفعل مشتريات النفط الروسي.
وإلى جانب الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على أوروبا لحظر النفط الروسي، تمارس أيضاً ضغوطاً كبيرة على الدول المستوردة للخام الروسي، فقد أبلغ الرئيس الأميركي جو بايدن، رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال اجتماع افتراضي، يوم الاثنين، أنّه ليس من مصلحة الهند زيادة وارداتها من الطاقة من روسيا.
وكانت الولايات المتحدة حذرت من أنّ أي دولة تساعد روسيا على الالتفاف على العقوبات الدولية ستواجه "العواقب". وتسعى الهند وروسيا إلى وضع آلية دفع بالروبية والروبل لتسهيل المبادلات التجارية والالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة على البنوك الروسية، وفق تقارير إعلامية.
التفاف على العقوبات
لكنّ الالتفاف على العقوبات لن يقتصر على الدول الآسيوية التي تتعاون مع روسيا في مجال الطاقة، وإنما في مفارقة غريبة، فإنّ بعض شركات الطاقة الغربية تتحرك فعلياً للالتفاف على العقوبات الغربية الواسعة التي تستهدف مفاصل الاقتصاد الروسي.
وفي تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية، فإنّ شركة "شل" النفطية الأكبر في أوروبا ستواصل شراء النفط الروسي ومد السوق الأوروبي به بطريقة جديدة، مشيرة إلى أنّ ذلك سيحدث من خلال ما يسميه التجار "مزيج لاتفيا" الذي يجري فيه خلط الديزل الروسي بغيره من المنتجات البترولية المكررة.
ووصفت "بلومبيرغ" الأمر بالمناورة، إذ تقوم الفكرة على تسويق برميل يحتوي على 49.99% فقط من الوقود الروسي، حيث تعتبر "شل" أنه طالما جاءت الكمية المتبقية من عبوة البرميل من مصدر آخر فإنّ الشحنة تقنياً لن تكون روسية المصدر.
وتدعم هذه الحيلة سوقاً مزدهرة وغامضة للديزل الروسي المخلوط وغيره من المنتجات البترولية المكررة، وهي واحدة من حيل عديدة تستخدمها شركات النفط وتجار السلع الأساسية للحفاظ على تدفق الطاقة الروسية إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه إرضاء الرأي العام الذي يطالب بإنهاء الدعم الذي تجنيه روسيا من النفط.
وقالت "بلومبيرغ" إن التجار في سوق النفط يتهامسون حول "مزيج لاتفيا" وهو صنف جديد من الديزل يبدو حلاً بديلاً لتسويق المنتج الروسي ممزوجاً بمنتجات دول أخرى.
وعادة ما يأتي المنتج من بريمورسك، وهي منطقة روسية لتصدير النفط قرب بطرسبرغ، إلى ميناء فنتسبيلز في لاتفيا الذي يضم مرفأ نفط كبيرا وسعة تخزينية، وهناك يمكن مزج المنتج، كما أن هناك العديد من المواقع الأخرى التي يحدث فيها المزج منها هولندا وأعالي البحار أيضا، عبر الضخ بين ناقلتين.
أبواب خلفية
ويُعد مزيج لاتفيا تذكيرا بأبواب خلفية مماثلة لتجارة النفط الخام الإيراني والفنزويلي الخاضعين للعقوبات، إذ عرضت لسنوات في الشرق الأقصى على أنّها "مزيج ماليزي" أو "مزيج سنغافوري".
وفي العلن، قالت "شل" إنّها بدأت "انسحابا تدريجياً من المنتجات البترولية الروسية" مضيفة أنّها "توقفت على الفور عن شراء الخام الروسي في سوق الصفقات الفورية" مع صدور العقوبات ضد موسكو.
ووفق "بلومبيرغ" فإنّ الثغرات والأبواب الخلفية تشير إلى مدى صعوبة تنفيذ العقوبات، لافتة إلى أنّ فرض بعض الأطراف عقوبات ذاتية، يفتح الباب للشركات كي تقوم بما تراه مناسباً، والنتيجة هي أن تواصل روسيا بيع وقودها الأحفوري وكسب المال، وتستفيد أوروبا أيضاً من ارتفاع إمدادات الديزل وأسعار الطاقة المنخفضة.