خلال عامين أو ثلاثة، ويكمل "انفتاح" أنور السادات نصف قرن بالتمام والكمال، فرغم التسّميات المختلفة والعناوين البراقة لإصلاح مبارك الاقتصادي ومشاريع السيسي القومية، فالواقع أن الجميع ينضوي تحت لواء انفتاح السادات، ولا يمثل أكثر من استمرار لما بدأه، في حين لا تمثل الاختلافات الجزئية فيما بينهم جميعًا سوى اختلافات مظاهر وتفاصيل، مع وحدة كاملة في مضمون "النموذج الاقتصادي"، المتعثّر بأمراض تنموية مُزمنة منذ ولادته، والذي يُوشك أخيرًا على الموت؛ بحيث لا نأمل سوى تشييع الجنازة بأقل خسائر وآلام ممكنة للشعب المصري الذى عانى طويلاً لإطالة عمر هذه الجثة الحيّة!
ففي 18 إبريل/نيسان 1974، بعد حوالي ستة أشهر من حرب أكتوبر، أصدر السادات ورقته الشهيرة، "ورقة أكتوبر"، لتكون عنوان المرحلة وبرنامج الدولة الجديد ما بعد الحرب، مُتضمّنةً رؤيته بذلك الانفتاح الاقتصادي، بشعارات عاملة جميلة من نوع زيادة دور القطاع الخاص وإطلاق حرية التجارة الخارجية وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية، وما تتطلبه تلك الشعارات من تدابير فرعية وجانبية بالطبع، مما صاغ بمجموعه "النموذج الاقتصادي" الذي تعيش به مصر منذ ما يقرب من نصف قرن. فما هي السمات العامة لذلك النموذج في تشكّله الواقعي كما أظهرته الخبرة التاريخية؟ وكيف تتمظهر في سماته تلك المأساة الاقتصادية التي تعيشها مصر اليوم؟ وما هو الثمن الأكبر لتلك السمات؟
الأساس العيني: ركود ريعي وانتفاخ خدماتي
إن أولى وأبرز سمات هذا النموذج، على مستوى تنظيمه الاجتماعي للإنتاج، هي ركود القطاعات الإنتاجية السلعية، الأقرب للتراجع العام، مقابل النمو المَرضي للقطاعات الخدمية والريعية، وهى سمات نموذجية لحالة الريعية العامة، أو "لعنة الموارد" الشهيرة، التي يسبّبها "المرض الهولندي" بآثاره المعروفة، والمُفارقة حدوث ذلك في بلد كبير السكان لا يملك ثراءً موارديًا بذلك المعنى من الأساس؛ ما يضعف حتى من ميزاته الكمّية.
ونرى آثار ذلك، على المستوى الماكروي، في التقلّب الشديد المستمر لمعدلات النمو الاقتصادي الكلي، التي أصبحت منكشفة بشكل شبه كبير على تلك الموارد الريعية التي يتحصّل عليها الاقتصاد وحالتها في مصادرها الأصلية، مُتمثّلة ضمن قنوات أخرى بأسعار النفط ومعدلات المرور بقناة السويس والحالة الاقتصادية ببلدان الخليج العربي، فتراوحت معدلات النمو ما بين "قيعان" بلغت 1.6% عام 1974، و1.1% عام 1991، و2.4% عام 2002، و1.8% عام 2011، مقابل "قمم" بلغت 13.3% عام 1976، وحوالي 10% أعوام 1980 و1982 و1984، بهبوطات كبيرة فيما بينها، و6.4% عام 2000، و7.2% عام 2008، و5.6% عام 2019، ما يظهر كما نرى، بفروقاته الكبيرة ما بين القمم والقيعان، تغايرًا كبيرًا في معدلات النمو، فيما يميل الاتجاه العام للفترة للهبوط بما يتماشى مع التراجع في الموارد الريعية نفسها على مستوى المنطقة ككل، كذا التدهور الطبيعي لمعدلات التبادل الدولي في غير مصلحة السلع الأوّلية، المصدر الأوّلي لهذه الموارد.
أما على المستوى الميكروي، فقد لُوحظ على التكوين القطاعي المسار القياسي المعروف للمرض الهولندي، مع تزايد الموارد الريعية المتدفّقة للاقتصاد والدولة، فقد تراجعت القطاعات السلعية الإتجارية، أي الصناعة التحويلية والزراعة، مقابل نمو القطاعات غير الإتجارية كالتشييد والتجارة والخدمات، فأظهرت الصناعة التحويلية تقلبًا كبيرًا، لكن ضمن ركود عام بالنظر لكامل الفترة، فرغم تقلّبها ما بين 12 و18% عامّي 1982 و2000 على التوالي، إلا أنها استقرت كمتوسط عام تقريبًا عند نسبة 17% التي بدأت بها الفترة.
ورغم أن تراجع النصيب النسبي للزراعة في الناتج المحلي الإجمالي هو مما يدخل ضمن الاتجاهات التاريخية الطبيعية للتغيّر الهيكلي، إلا أن تراجعها في مصر لم يتزاوج مع تحسّن في الإنتاجية، بل مع وضع أقرب للركود، وفجوة غذائية متزايدة، كما أنها لا تزال تشغِّل ما لا يقل عن خُمس القوة العاملة؛ ما يبتعد به عن كونه ركودًا أو تراجعًا نسبيًا ناتجًا عن مجرد نمو القطاعات السلعية الأخرى.
كما أن الانهيار السريع في نسبتها من حوالي 29% إلى 16% من القيمة المُضافة للناتج المحلي الإجمالي خلال سبعة أعوام فقط، من 1974 إلى 1980، والذي توازى مع تراجع مماثل في حصة الصناعة التحويلية، إنما يشير لحقيقة وخلفية ذلك التراجع، أي الانتفاخ الريعي للاقتصاد، بالزيادة السريعة في صادرات النفط وقتها، وما خلّفه من آثار "كمّية" زادت الحصص النسبية للقطاعات غير الإتجارية، والأخطر "كيفية"، أضعفت حوافز نمو القطاعات الإتجارية، أو السلعية عمومًا.
وقد انعكست هذه الاتجاهات في التراجع النوعي للاقتصاد، كما يظهر بمؤشر التعقيد الاقتصادي للبلد، الذي يقدّر درجة تطوّر الاقتصاد من خلال مدى تنوّعه السلعي والقطاعي، بوقوع مصر في المرتبة الـ69 من إجمالي 133 دولة غطّاها المؤشر عالميًا عام 2020، مُتحسّنة من المرتبة 75 عام 1995، ومن ذروة تدهورها التنويعي عند المرتبة الـ81 عام 2005، وكلها كما نرى مراتب متأخرة تضعها ضمن النصف الأسفل من المؤشر، أي دون المتوسط العالمي بمجموعه.
ولا عجب على الإطلاق في انعكاس هذا على الموازنة العامة بحالة عجز مُزمن؛ نتيجة لانخفاض الفوائض الاقتصادية عمومًا من جهة، ولارتفاع حوافز التهرّب الضريبي في سياق الدولة الريعية الناتجة عن ذلك النمط خصوصًا من جهة أخرى، مما لسنا في محل مناقشته هنا، لكنه يعزّز حالة الهشاشة المالية ويحفّز السعي للاستدانة الداخلية والخارجية معًا، فضلاً عن تقييده لإمكانات الاستثمار في رأس المال البشري ذي العوائد والإنتاجية طويلة الأجل، من تعليم وصحة خصوصًا.
التدفق الخارجي: عَجز تجاري مُزمن
كنتاج لحالة الريعية العامة، الكابحة لنمو الإنتاجية واتساع الإنتاج السلعي بطبيعتها، تدهورت القدرة التنافسية الوطنية وتراجع الموقع العالمي للاقتصاد الوطني، فتحتل مصر اليوم الموقع الـ57 ضمن مصدّري العالم، ما لا يتناسب إطلاقًا مع حجمها الديموغرافي الرابع عشر ترتيبًا على مستوى العالم، الأمر الذي لا ينفصل عن انتمائها لمجموعة الدول المتخصصة في فئة "السلع المحدودة"، التي تقع في الطبقة قبل الأخيرة من ستة طبقات نوعية للتجارة الدولية؛ لا عجب في التراجع المُطلق لقيمة حصّة مصر من الصادرات العالمية، التي هبطت من 37 سنتًا من كل مئة دولار صادرات عام 1965م، إلى سبعة سنتات فقط منها عام 2000.
وبينما تقع مصر في الموقع 57 من 127 على مستوى العالم من جهة التصدير، فإنها تحتل الموقع 41 من جهة الاستيراد؛ لتكون في المُحصلة في الموقع 123 من 127 من جهة التوازن التجاري، ما يعكس الفجوة السلبية المُزمنة بين الصادرات والواردات السلعية، التي بلغت معها الواردات ثلاثة أمثال الصادرات أحيانًا، بل وبعد أربعين عامًا من تطبيق سياسات الانفتاح، لم تغطّ الصادرات سوى ثُلث الواردات تقريبًا، ونوعيًا مثّلت الصادرات النفطية حوالي 40% من إجمالي الصادرات السلعية كمتوسط عام تقريبي طوال نصف القرن الماضي، بل ووصلت إلى حوالي 75% منها أحيانًا، كما كان الحال أوائل الثمانينيات، فيما لم تتجاوز في المقابل السلع عالية التقنية رقم مئة مليون دولار حتى ثورة يناير، وبالكاد تجاوزت 340 مليون دولار عام 2020، لتصل بالكاد إلى 3% من صادرات السلع المصنوعة، الهزيلة أصلًا!
أما عن شروط التبادل التجاري، فقد تدهورت بدورِها كنتيجة منطقية لهذا الانخفاض النوعي في الصادرات، فبأخذ سنة 2000 كسنة أساس بقيمة افتراضية 100، نجد ان مؤشر صافي شروط التبادل التجاري لمصر قد تراجع من 220 في سنة 1981، ليصل إلى 94.8 في عام 1989 عندما كانت مصر على حافة الإفلاس، وبعد وصول المؤشر لقاعه التاريخي عند 93.1 في سنة 2002، استعاد بعضًا من خسارته، ليستقر عند متوسط 150 منذ سنة 2008 حتى اليوم.
وبالمُجمل، اعتمد ميزان المدفوعات، كقاعدة عامة، على معالجة عجز الميزان التجاري بفائض ميزان الخدمات، وذلك من خلال موارد ذات أصول وطباع ريعية بالأساس، ما عُرف بالأربعة الكبار تحديدًا، وهى تحويلات العاملين بالخارج وعوائد صادرات النفط ورسوم قناة السويس وعوائد السياحة، وكلها كما نرى عوائد متقلّبة غير مُستقرة، شديدة التأثر بالظروف السياسية والدولية الخارجة عن سيطرة البلد؛ ما كانت نتيجته بمجموعه ميزان مدفوعات هشّ، يموّل حاجات أساسية ضرورية لاستقرار الاقتصاد وإشباع الحاجات الاجتماعية الأساسية بموارد ريعية محدودة غير مستقرة؛ ما جعله مكشوفًا على التقلّبات الإقليمية والجيوسياسية وعلى حافة العجز طوال الوقت؛ بشكل تكرر معه التأزم المالي ولجوء البلد لطلب المعونات الخارجية، فضلاً عن القروض المتزايدة بمخاطرها المعروفة.
ومما يثبت المأساوية المركبة لهذا الوضع، هو أن أي مراجعة تاريخية ستكشف أن مصر منذ الانفتاح قد أصبحت ضمن أكثر دول العالم حصولاً على قروض ومعونات، متبادلة المركزين الأول والثاني أحيانًا، الأمر الذي لم يشفع لها أو يساعدها على الخروج من حالة العجز المُزمنة تلك، بل إنها ما تكاد تخرج من مأزق مديونية وتستقر بضعة أعوام، حتى تعود لمراكمة المديونية بوتيرة متسارعة؛ لأسباب هيكلية متجذّرة تاريخيًا في عجز النموذج الاقتصادي، تتجاوز مجرد سوء الإدارة والعجز المؤسسي كما يبدو على السطح!
المظهر الرمزي: تضخّم مُزمن وتدهور للعملة الوطنية
وبالطبع، لسنا بحاجة للاستطراد طويلاً في حالة التضخم وسعر صرف الجنيه؛ كانعكاس طبيعي لكل هذا التدهور الكمّي والكيفي للاقتصاد، فطوال نصف قرن، لم يتوقف التضخّم عن التهام القوة الشرائية للمصريين، ولا الجنيه عن التدهور أمام عملات العالم، فلو حسبنا على أساس الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، بتقديراته الحكومية شديدة التحفّظ، والأميل لتجميل الصورة، فإنّ "سلة السلع الافتراضية" التي كانت تكلّف المصري متوسط الحال ما يعادل جنيهين فقط عام 1974، تتطلّب منه اليوم إنفاق حوالي 320 جنيهًا، أما على صعيد سعر الصرف الخارجي، فبينما استغرق الأمر ثلاثة عقود تقريبًا من بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 حتى نكسة يونيو عام 1967، ليتضاعف الدولار أمام الجنيه بالكاد مرةً واحدة، بانخفاض الأخير من 20 قرشًا للدولار إلى 38 قرشًا له، فإن الأمر لم يتطلّب سوى عقد واحد تقريبًا ليعاود التضاعف بانخفاض الجنيه من 40 قرشًا للدولار إلى 83 قرشًا له خلال الفترة 1978-1990، ليبدأ الجنيه بعدها مسلسلاً من الانهيار، بالهبوط السريع إلى ثلاثة جنيهات للدولار خلال ثلاثة أعوام فقط بنهاية عام 1993، مع تطبيق الجرعة الثانية من الانفتاح، المعروفة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي طبّقه حسني مبارك، وليستمر على هذا المسار إلى آخر القصة المعروفة بتعويمّي فترة السيسي، خلال أقل من ستة أعوام، وتعويمه الثالث المُنتظر!
المنطق العام: تبعية الداخلي للخارجي
وهكذا، بجمع أجزاء الصورة؛ نجدنا أمام نموذج اقتصادي محدود الإنتاجية السلعية والتنافسية الخارجية؛ نتيجة لتشوّهات هياكل أسعاره وأرباحه مع الانتفاخ الريعي والخدمي، تابع إنتاجيًا وتقنيًا للخارج لحدّ اعتماد استهلاكه المحلي على وارداته الإنتاجية، يتقلّب نموه بتقلّب ما يحوزه من موارد ريعية؛ لما تعانيه قطاعاته السلعية الإنتاجية من ركود عام؛ وكنتيجة عامة يشتبك مع العالم بصافي تعاملات سلبي مُزمن، تتدفّق معه الموارد للخارج أكثر مما تتدفّق للداخل، كما تنخفض قدرته على الادخار والتكوين الرأسمالي لضعف فائضه الاقتصادي؛ بما يؤدي بمجموعه لطابع عام غير مُستدام للنموذج، كنموذج استهلاك ومديونية بشكل عام، يعتمد معظم نموه واستقراره على ما يتحصّل عليه من موارد نقد أجنبي، تتناقص بحكم الاتجاه التاريخي الطبيعي لتدهور معدلات تبادله مع الخارج، فضلاً عن تراجع الموارد الريعية وعدم استقرارها من الأساس.
وها نحن اليوم قد وصلنا، مع توسّع الفجوة بين حاجات استمراره المتزايدة وموارد تمويله المتناقصة، إلى "يوم الحساب"، بما يشبه يوم حساب سابق، عندما كانت مصر على وشك الإفلاس عام 1989، لولا الرضا الغربي المدفوع سياسيًا بمشاركتها في حرب الخليج الثانية، مُتبلورًا في نادي باريس وما قرّره من شطب لحوالي نصف الديون وجدولة نصفها الآخر، ثم باتفاق صندوق النقد وتطبيق الجرعة الثانية المذكورة من الانفتاح؛ لتشتري مصر بعض الوقت لا غير، وتعاود السقوط في أزمة تلو الأخرى، وتطلب قرضاً تلو الآخر؛ بسبب العجز الهيكلي للنموذج الاقتصادي العاجز عن تجديد نفسه ذاتيًا، والذي يبقي مصر كما تريدها قوى الهيمنة العالمية، فقيرة، مدينة، معتمدة على الخارج، تبيع أصولها الإنتاجية وترهن إرادتها السياسية، أو كما وصفوها بشكل أكثر بلاغة، "طافية، لا تنجو لا تغرق"!