الجزائر: كبح الواردات يفاقم الأزمات التموينية

26 يوليو 2022
شح السلع يرفع الأسعار لمستويات كبيرة (بلال بنسالم/Getty)
+ الخط -

تجد أسواق الجزائر صعوبة في ضبط نفسها، منذ بداية السنة، وهذا بفعل ندرة في المواد الاستهلاكية الزراعية والصناعية بصفة دورية.

وانتقلت الندرة بمرور الأشهر من رفوف المحلات والأسواق إلى رفوف الصيدليات، ما دفع الجزائريين لخوض سباق يومي مع الزمن من أجل تأمين قوت ودواء عائلاتهم، وسط جمود حكومي محير، وتقاذف للمسؤولية بين التجار في مختلف سلاسل العملية التجارية، ليبقى المواطن وحده الضحية.


طوابير الحليب
انتقلت أزمة الندرة لتمس الحليب غير المدعم، بعدما عاش الجزائريون شهوراً من ندرة الحليب المدعم اضطرتهم للانتظار ساعات في طوابير طويلة يوميا لشراء كيس حليب، إذ اختفت وبشكل مفاجئٍ علب الحليب غير المُدعم أيضاً من على رفوف المتاجر، فيما استغل "صائدو الفرص" الندرة لعرض الحليب بمختلف علاماته عبر منصة فيسبوك بأسعار مرتفعة، مستغلين حاجة المواطنين لهذه المادة الأساسية في النظام الغذائي الجزائري.
وإلى ذلك، أكد رياض خوالي، وهو مالك ملبنة (معمل ألبان) خاصة، أن "الإشكال يكمن في تقليص الاستيراد، فرخص جلب مسحوق الحليب أي المادة الأولية لم يمنح للمنتجين إلا مرتين منذ يناير/ كانون الثاني 2022، ويجب الانتظار إلى غاية منتصف سبتمبر/ أيلول القادم حتى تعود الأمور لنصابها."

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وأضاف المُنتج نفسه متحدثا لـ"العربي الجديد"، أن "جل مصانع إنتاج الحليب غير المدعم انتهى مخزونها من مسحوق الحليب الذي يستورد أساسا من نيوزيلندا وسويسرا وفرنسا، ما يعني أن الشحنات لن تكون في الجزائر في الأيام القليلة القادمة".
وعاد الجزائريون منذ نهاية 2021 للوقوف في طوابير للحصول على كيس حليب مدعم، بدءاً من السادسة صباحاً من كلّ يوم، مشكلين مشهداً لم يعد يترجم أزمة عابرة قد يمرّ بها أيّ بلد في حاجة لشيء ما، بقدر ما يعكس حجم الفشل الذي ضرب الحكومات المتعاقبة في تسيير ملف بات يؤرق البلاد وينهك الخزينة العمومية بثقل فاتورة استيراد ما يغطي الطلب الداخلي.
وأكد رئيس الجمعية الجزائرية لحماية المستهلك مصطفى زبدي أن مصالحه "تلقت مئات الرسائل والمكالمات لأجل التبليغ والاستفسار عن نقص حليب العلب لبعض العلامات في السوق، نعتقد أن المسألة ظرفية فقط وناجمة عن تأخر تسليم الرخص الصحية لاستيراد مسحوق الحليب (غير المدعم)."
وأضاف زبدي متحدثا لـ"العربي الجديد"، أن "الجميعة تواصلت مع وزارة التجارة والزراعة للاستفسار حول مشكلة ندرة مادتي الحليب والخبز، وإلى حد الساعة أكدت وزارة التجارة أن المشكلة تتعلق بالتوزيع، ما دفع الوزارة إلى وضع شاحنات بيع مباشرة للمواطن، سواء لمادة الحليب أو حتى مواد أخرى، على غرار الطحين والفرينة، مع تكثيف الرقابة على نقاط التخزين لكبح المضاربة".

مصانع معطلة
بدأت نتائج تشديد القيود على عمليات الاستيراد من أجل تحجيم الواردات في الظهور في الأسواق والاقتصاد على السواء، فإذا كان كبح الواردات قد أثر على أسواق السلع كماً ونوعاً وقفز بأسعارها، فإن دائرة ضحايا الخطة الحكومية توسعت لتشمل المصانع وورشات الإنتاج، التي توقفت عن العمل تباعا لنفاد المواد الأولية وتعطل عمليات استيرادها.

في المنطقة الصناعية لولاية برج بوعريريج (180 كلم شرق العاصمة الجزائرية)، يقف تاج الدين زراولية في مصنعه لإنتاج المشروبات والعصائر المتوقف عن العمل منذ مطلع مايو/ أيار، وكله حسرة وغضب لنفاد المواد الأولية من نكهات الفواكه والسوائل الحمضية المستوردة من ألمانيا والبرازيل.

وكشف لـ"العربي الجديد" أنه سرح العمال إلى اشعارٍ آخر، منذ مايو/ أيار المنصرم، "بسبب تعطل ممثل الشركة الألمانية الممونة عن استيراد المواد الأولية نتيجة الإجراءات الإدارية التي فرضتها وزارة التجارة على عمليات الاستيراد. حتى لو قررنا أن نستورد مباشرة، فالأمر يستغرق أكثر من سنة لأخذ التراخيص اللازمة للحفظ والتخزين وغيرها من التراخيص، الأكيد أن العرض في الأسواق هو المتضرر الأول".

وأضاف صاحب المصنع أن "القرارات التي تتخذها الحكومة مؤسفة وتترجم حجم غياب التنسيق بين الوزارات، لا يُعقل أن تتطبق الإجراءات نفسها على مستورد مواد موجهة للاستهلاك المباشر وآخر يستورد مواد أولية موجهة للإنتاج وخلق الثروة وفرص العمل تضيف قيمة للاقتصاد".

وتسابق الحكومة الجزائرية الزمن من أجل تقليص فاتورة الواردات عبر فرض جملة من الإجراءات الجديدة على عمليات الاستيراد، بهدف مواجهة الأزمة المالية والتآكل السريع لاحتياطي البلاد من العملة الصعبة. وتعمل الحكومة على تقليص عمليات خروج العملة الصعبة إلى خارج البلاد، وذلك من خلال إدراج منصة رقمية خاصة بالمنتجات المحلية تشمل جميع القطاعات، إذ يمنع على المستوردين جلب المنتجات من الخارج في حال ثبوت توافرها على المنصة الرقمية الجديدة.

وألزمت وزارة التجارة، مطلع مايو/ أيار، جميع المستوردين بمعاينة المنصة الرقمية للوكالة الجزائرية لترقية التجارة الخارجية قبل تقديم طلب التوطين البنكي للسلع المُراد استيرادها، للتحري حول توافر المنتج المراد استيراده قبل تقديم الطلب للبنك، ما يهدد بتعطيل عمليات الاستيراد بين 30 و40 يوماً بحسب وتيرة دراسة الملفات.


عدوى الندرة تصل للأدوية
تفاقمت أزمة الندرة لتنتقل إلى داخل الصدليات، إذ كشف مسؤولون في قطاع الصيدلة عن اختفاء نحو 250 دواء من الأسواق، خصوصاً أدوية مرضى السكري والسرطان والقلب، إضافة إلى أدوية تخثر الدم، و"باراسيتامول"، وغيرها من الأدوية الهامة، فيما تتقاذف الوزارات مسؤولية تفاقم الأزمة، وسط تعهدات باستدراك وشيك لهذا النقص الذي أثر بشكل بالغ على صحة المرضى وسبّب قلقا لعائلاتهم.

تسابق الحكومة الجزائرية الزمن من أجل تقليص فاتورة الواردات عبر فرض جملة من الإجراءات الجديدة على عمليات الاستيراد


وقال رئيس النقابة الجزائرية للصيادلة الخواص (القطاع الخاص)، مسعود بلعمبري، إن "قائمة الأدوية المختفية تشمل عدا عن المستوردة مستحضرات منتجة محلياً أيضاً، على غرار حقن مضادة للالتهاب والمضادات الحيوية وأدوية القلب". وأضاف بلعمبري في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "النقابة حذرت في نهاية 2021 من ندرة 150 إلى 200 دواء على رفوف الصيدليات، وطالبنا الحكومة بتقسيم جهودها بين مكافحة كورونا والاستمرار في توفير الأدوية، خاصة للأمراض المزمنة والقاتلة، وإلا فإن النتيجة ستكون إما الموت بـ(كوفيد 19) أو الموت بأمراض أخرى مثلا السرطان، بعدما فوّت مرضى مواعيد العلاج الكيميائي لنقصه". ووفق رئيس النقابة الجزائرية للصيادلة، فإنّ "الحكومة عطلت منح رخص الاستيراد خصوصاً للمواد الأولية، وكانت للأدوية المخصصة لعلاج كورونا الأولوية، ما أحدث خللاً في عمليات الاستيراد، وفي ظل الظروف في أوروبا شهدت عمليات الاستيراد برغم قلتها تأخراً لافتاً".
وفي السياق، يوضح مراد بختي، وهو مستشار في مصنع هيزا لإنتاج الأدوية، أن "وزارة الصناعة الصيدلانية جمدت كافة الرخص الممنوحة في مطلع السنة الحالية لمصانع إنتاج الأدوية بهدف تجديدها وإصدار رخص تحمل ختم الوزارة، وأعطت مهلة لأصحاب المخابر لتقديم ملفاتهم على أن تسلمهم وصل إيداع الملف وتمكينهم من مواصلة العمل بهذا الوصل ريثما تمنح لهم الرخصة الجديدة دون تحديد موعد رسمي".

قال رئيس النقابة الجزائرية للصيادلة الخواص (القطاع الخاص)، مسعود بلعمبري، إن قائمة الأدوية المختفية تشمل عدا عن المستوردة مستحضرات منتجة محلياً أيضاً


ويضيف: "بعد مرور أيام فوجئنا بتجميد حساباتنا البنكية وتعاملاتنا الخارجية من دون سابق إنذار، وعندما استفسرنا عن الأمر، فوجئنا بأنّ الوزارة هي التي عطلت خدماتنا بسبب تسمية المصانع في السجل التجاري وأمرتنا بتغيير الرموز التجارية من: صناعة الأدوية إلى: مؤسسة صناعة الأدوية، أي زيادة كلمة مؤسسة، بدل مخبر، أي أنّ صحة وحياة المواطن اليوم مرهونة بكلمة فقط"، يتابع متحدثا لـ"العربي الجديد"، أنّ "المنتجين بمن فيهم نحن، أعلمنا الوزارة المعنية بأن المواد الأولية موجودة في الميناء والوقت يداهمنا، وتوجد فيها مواد كيميائية لا تحتمل ظروف تأخيرها مدة طويلة".


ارتباكٌ حكومي
حيال الأزمات التي تعيشها الأسواق الجزائرية وأدت لندرة مواد استهلاكية أساسية، تبقى الحكومة الجزائرية في موقف المتفرج، إذ تتبنى الخطاب النافي لوجود ندرة في الأسواق أحياناً، وخطاب "المؤامرة" أحياناً أخرى، وتكتفي بتصريحات مقتضبة تؤكد قرب "الفرج" وأنّ الأمور "تحت السيطرة"، فيما تساءل مستخدمون على مواقع التواصل عن نفع الحكومة التي تنتهج سياسة "النعامة"، كما يقول بعضهم.
إلى ذلك، يرى الخبير الاقتصادي جمال نور الدين أنّ "الحكومة كشفت عن ضعف لافت في تسيير الملفات المعيشية للمواطن، بل في كثير من الأحيان كانت تستفز المواطن بتصريحات غريبة ترجع الأزمة لجهات أجنبية وغيرها من الأمور التي لا يتقبلها العقل، كان الأجدر بالحكومة وحتى برئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أن يقوم باجتماع استثنائي مع الوزراء المعنيين بتنظيم الأسواق، بهدف طمأنة المواطن"، يضيف أنّ "حملة مواقع التواصل الاجتماعي التي يقوم بها وزير التجارة كمال رزيق بنشر صورٍ له في مخازن زيت الطعام والحليب، تبقى ذات تأثير افتراضي ولم تغير في الواقع شيئاً، فالأزمات تحلّ في الميدان وليس عبر فيسبوك".
من جانبه، حذر المستشار الحكومي والخبير الاقتصادي عبد الرحمن مبتول من "الإفراط في كبح الواردات، وهو الفخ الذي وقعت فيه الحكومة سنة 2021، فبلغة الأرقام استطاعت خفض تدفق الواردات، ولكن كان ذلك على حساب قوت وصحة الجزائريين، إذ يجب التفريق بين كبح الواردات وترشيدها، فحتى الدول القوية اقتصاديا تستورد ما تحتاج إليه من مواد لا تنتجها وإلّا استغنت الدول بعضها عن بعض".