بينما تتصاعد تحذيرات بنوك استثمار عالمية من أنّ العملة المصرية مرشحة للهبوط ومعرضة لضغوط في ظل مخاطر تتعلق بتقلبات في التدفقات الأجنبية في الأشهر المقبلة، أقدم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على إصدار قرار بتشكيل مجلس للتنسيق بين السياسة النقدية للبنك المركزي والسياسة المالية للحكومة، الأمر الذي اعتبره مسؤول سابق في البنك المركزي أنه يأتي في إطار حزمة من التحوطات لمواجهة أي أزمات مالية قد تحدث في مصر، نتيجة تداعيات أزمة جائحة كورونا وتأثيرها بالاقتصاد العالمي.
وأصدر السيسي قراراً بتشكيل ونظام عمل المجلس التنسيقي، وفقاً للجريدة الرسمية، يوم الخميس الماضي، على أن يترأسه رئيس مجلس الوزراء، ويكون بعضوية كل من محافظ البنك المركزي، ووزيري التخطيط والمالية، ونائب محافظ البنك المركزي، ونائب وزير المالية للسياسات المالية، ويضم أعضاءً من ذوي الخبرة. ويختص المجلس بوضع آلية للتنسيق بين السياسة النقدية للبنك المركزي والسياسة المالية للحكومة، ويرفع تقريراً سنوياً عن أعماله إلى رئيس الجمهورية.
وقال المسؤول السابق في البنك المركزي المصري لـ"العربي الجديد" إن قرار تشكيل المجلس جاء متأخراً، لأنه منصوص عليه بموجب قانون البنك المركزي الأخير الصادر في 2020، لافتاً إلى أنه جاء بعد فترة طويلة من التضارب في السياسات المالية التي تضعها الحكومة من جهة والسياسات النقدية التي يضعها البنك المركزي من جهة أخرى، وهو دليل على عدم وجود سياسة اقتصادية شاملة داخل الحكومة.
ضغوط على العملة المصرية
ورجح المصدر أن يكون قرار تشكيل المجلس التنسيقي للسياسات المالية والنقدية قد "جاء نتيجة شعور بأنّ مشكلة ستقع في مصر إذا رفع مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) سعر الفائدة، ولذلك فإن الحكومة تحاول النظر في حلول مالية ونقدية من منظور جماعي يشمل البنك المركزي والوزارات الاقتصادية، وخاصة في ظل التقارير التي تشير إلى أنّ العملة المحلية مرشحة للهبوط"، مضيفاً: "هناك بعض المؤشرات التي تجعل الحكومة في حالة تحفز".
ويتوقع صانعو السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إقرار 3 زيادات للفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية في 2022، و3 زيادات أخرى في 2023، لمواجهة التضخم، وهو ما يعني وفق محللين ماليين أن تغادر رؤوس أموال أجنبية الأسواق الناشئة، ولا سيما من مصر التي تواجه مخاطر مالية وتتجه صوب أميركا.
الدين الخارجي لمصر قفز إلى 137.85 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران 2021، مقابل 123.49 مليار دولار في نفس الشهر من العام الماضي
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، قالت وكالة "ستاندرد آند بورز" الأميركية للتصنيف الائتماني، إنّ على مصر أن تجد وسيلة لخفض دفعات فوائد الدين الأجنبي إذا كان لها أن تتفادى الوقوع في أزمة في حال ارتفاع سعر الفائدة العالمية في المستقبل.
ويعاني الاقتصاد المصري من معدل مرتفع من الديون الخارجية، فيما انخفاضاً في الدخل بالعملات الصعبة بسبب الكساد في السياحة.
وقفز الدين الخارجي لمصر إلى 137.85 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران 2021، مقابل 123.49 مليار دولار بنهاية يونيو/ حزيران 2020، بنسبة زيادة بلغت 11.57%، وفق بيانات صادرة عن البنك المركزي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وبدأت مؤشرات استفحال التضخم العالمي خلال الأعوام المقبلة تهدد استقرار معظم الدول، وبينها مصر، خصوصاً مع تداعيات الأزمات، وأبرزها جائحة كورونا، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى اتخاذ بعض الإجراءات لتفادي التغير السلبي في معدل التضخم، والحفاظ على مكتسبات التنمية، بحسب ما يقول المسؤول السابق في البنك المركزي المصري.
ويضيف أنه "على الرغم من حفاظ مصر على معدلات التضخم في مستوى متدنٍّ مقارنةً بدول أخرى، في ظل تداعيات أزمة كورونا، إلا أنه يجب عليها التعامل مع أزمة استفحال التضخم وتحديد خططها بشكل أكثر إيجابية".
تراجع السيولة العالمية يحمل مخاطر رئيسية لمصر
ووفق تقرير حديث لوكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني العالمية، فإنّ "اعتماد مصر على التمويلات الخارجية يجعلها عرضة لتغيرات الظروف النقدية العالمية".
ولفت التقرير إلى أنّ تراجع السيولة العالمية يحمل مخاطر رئيسية لمصر. وأشار تقرير الوكالة إلى أنّ مصر قد تلجأ إلى صندوق النقد الدولي، من دون أن يحدد نوع الدعم الذي قد تطلبه القاهرة من الصندوق.
وكان هناك اتفاق لا يتضمن تمويلاً، مطروحاً على الطاولة في مناقشات مصر مع الصندوق في عام 2019 بعد نهاية برنامج التسهيل الائتماني البالغة قيمته 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات، لكن تحول الاتجاه بعد ذلك إلى برنامج دعم مالي مرتبط بجائحة كورونا العام الماضي، بقيمة 5.2 مليارات دولار.
حيازات الأجانب من الديون الحكومية وصلت إلى 34 مليار دولار في سبتمبر/أيلول 2021
وعززت مصر جاذبيتها للمستثمرين الأجانب في السنوات الأخيرة من خلال "إصلاحات قياسية، وبرامج صندوق النقد الدولي، وأسعار الفائدة الحقيقية المرتفعة، واستقرار سعر الصرف". لكن بسبب تداعيات كورونا، والضغط المتزايد على أسعار الفائدة نتيجة التضخم (الذي يدفع البنوك المركزية والاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى رفع أسعار الفائدة العام المقبل)، تزداد الحاجة إلى عوامل مساعدة جديدة تدفع مصر إلى مواصلة النمو.
وبعد تثبيتها أخيراً للتصنيف الائتماني طويل الأجل لمصر عند +B مع نظرة مستقبلية مستقرة، حذرت وكالة "فيتش" من أن التدفقات الوافدة "يمكن أن تنسحب استجابة لأي صدمة ثقة أو تحول في ظروف السيولة العالمية، ما قد يضع السيولة من العملات الأجنبية وأسعار الفائدة والصرف تحت الضغط".
ووصلت حيازات الأجانب من الديون الحكومية إلى 34 مليار دولار في سبتمبر/أيلول، في نمو قياسي بعد صدمة الأسواق العالمية في بداية الجائحة العام الماضي. وأشار تقرير "فيتش" إلى أنّ إدراج السندات السيادية المصرية بمؤشر "جيه بي مورغان" لديون الأسواق الناشئة في يناير/ كانون الثاني 2022، إضافة إلى التمويلات غير السوقية وتحسينات هيكل السوق، يمكن أن يوفر "بعض الدعم الهيكلي لطلبات المستثمرين".
مخاطر التضخم وارتفاع الفائدة الأميركية
لكن على الرغم من ذلك، يتوقع محللون تضرر الاقتصاد المصري من تبعات التضخم العالمي، وهو الأمر الذي يتطلب خطة محكمة لتفادي الارتفاعات المتوقعة في الأسعار عالمياً وتأثير ذلك في السوق المصرية.
وأثرت الأزمة العالمية في أسعار السوق المحلية في مصر، إذ ارتفعت أسعار معظم المنتجات ومواد البناء. ووفق مؤشر "آي.إتش.إس ماركت" لمديري المشتريات، انكمش نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر للشهر الثاني عشر على التوالي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، متأثراً بارتفاع أسعار المنتجات، ما عرقل إنفاق العملاء، وسبّب انخفاض الطلبيات الجديدة بأسرع وتيرة في عام.
مصر أمضت 5 سنوات على تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية
وأظهر المؤشر الصادر في وقت سابق من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أن نشاط القطاع الخاص غير النفطي سجل 48.7 نقطة، أي دون مستوى الخمسين نقطة الفاصل بين النمو والانكماش، وهو المستوى نفسه الذي بلغه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ويرى محللون أن البنك المركزي المصري، يجب أن يلعب دوراً في التحوط من تبعات التضخم المتزايد، وذلك من طريق رفع أسعار الفائدة. كذلك قد تلجأ الدولة إلى إقرار تسعير مباشر لبعض القطاعات الرئيسية حال خروج حركة تداولها عن السيطرة، كما يحدث في الأسمدة وبعض مواد البناء واللحوم. ومن المفترض أن يتولى المجلس التنسيقي الذي صدر قرار جمهوري بتشكيله، التنسيق بين البنك المركزي والحكومة في هذا الشأن.
وتبدو الحكومة مرتبكة حيال التعامل مع التضخم والزيادة المحتملة في أسعار الفائدة العالمية التي تدفع رؤوس الأموال الأجنبية إلى الرحيل.
وفي أول قرار للجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري بعد قرار السيسي تشكيل المجلس التنسيقي، قررت اللجنة الإبقاء على سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند مستوى 8.25% و9.25% و8.75% على الترتيب. وكذلك الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 8.75%.
واعتبر البنك المركزي في بيان له أنّ المعدل السنوي للتضخم العام في الحضر انخفض إلى 5.6% في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 من 6.3% في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 و6.6% في سبتمبر/ أيلول 2021. لكنّه لفت إلى أنّه على الصعيد العالمي، استمر النشاط الاقتصادي في التعافي من جائحة كورونا، وإن ظهرت بعض مؤشرات التباطؤ نظراً لاضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد العالمية.
ويقول الباحث المتخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية، إبراهيم نوار، إنّ قرار البنك المركزي المصري إبقاء أسعار الفائدة من دون تغيير، يأتي رغم قرار مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي البدء بوقف شراء 120 مليار دولار من سندات الخزانة الأميركية شهرياً، وتنبيه السوق إلى أن أسعار الفائدة سترتفع بنهاية العام المقبل إلى ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن، إلى 0.9%، وأن معدل التضخم سيبلغ 2.6%، ثم يرتفع سعر الفائدة إلى نحو ثلاثة أضعاف مرة أخرى بنهاية عام 2023 إلى 1.6%، ثم إلى 2.1% عام 2024.
ويضيف نوار أنه في الوقت نفسه قرر بنك إنكلترا رفع سعر الفائدة على الجنيه الإسترليني، وقال محافظ البنك أندرو بيلي، إنه سيواصل رفع أسعار الفائدة تدريجاً، لضمان إبقاء التضخم داخل نطاق السيطرة (في حدود 2%)، مع عدم تعريض النمو الاقتصادي لخطر الانكماش، وذلك بالإضافة إلى قرار البنك المركزي الأوروبي اتباع سياسة "الخطوة خطوة" على طريق رفع أسعار الفائدة تدريجاً، مع التحوط لمخاطر تأثير "أوميكرون" في النمو الاقتصادي.
يتابع قائلاً إنّ "البنك المركزي المصري اكتفى بأن يطمئن المصريين إلى أنّ كل شيء على ما يرام، وقال إنّ التوقعات جيدة، وإنّ الاقتصاد نما نمواً حقيقياً بنسبة 9.8% في الربع الثالث من هذا العام (الربع الأول من السنة المالية الجديدة التي بدأت في الأول من يوليو/ تموز) من دون النظر إلى تصريحات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، أو البنك المركزي الأوروبي، أو بنك إنكلترا، التي اتفقت على أنّ أسعار الفائدة سنة 2022 ستزيد لا محالة، ربما إلى 3 أضعاف مستواها هذا العام".
الحكومة تتوسع في الاقتراض
ويقول نوار إنه يجب الوضع في الاعتبار أن مصر توسعت في الاقتراض خلال سنوات انخفاض أسعار الفائدة، وما زال أمامها طريق طويل لتسدد أقساط الديون، وذلك معناه ببساطة أننا في الثلاث سنوات المقبلة على الأقل سنقترض بأسعار فائدة أعلى، وما دام سعر الفائدة على الدولار سيزيد، يجب على البنك المركزي المصري رفع أسعار الفائدة لأنّ سعر الجنيه مربوط بمعدل ثابت تقريباً مع الدولار في الثلاث سنوات الأخيرة.
ويتابع: "إذا كان وزير المالية مصمم على فلسفة إطالة عمر الدين، فهذا معناه أنّ الاقتصاد بدلاً من أن يكون مقيداً بسلاسل ديون لمدة خمس سنوات، ستظل تلك السلاسل في رقبة الاقتصاد لمدة 50 سنة، وبأسعار فائدة قد تزيد على 9%".
ولا تستبعد بنوك استثمار عالمية حدوث صدمة جديدة للجنيه المصري، إذ قال بنك الاستثمار الأميركي "غولدمان ساكس" في سبتمبر/ أيلول الماضي إنّ الجنيه المصري "مبالغ فيه إلى حد ما" مشيراً إلى أنّ أرصدة النقد الأجنبي والقدرة التنافسية معرضة للخطر على المدى الطويل، وفق ما نقلت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية.
أوقات عصيبة لـ"الملطوش"
وفي الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تكون مصر قد أمضت 5 سنوات على تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، لتنخفض قيمته أمام الدولار إلى 19 جنيهاً بدلاً من 9 جنيهات قبل قرار التعويم، قبل أن يتحسن تدريجاً، إلا أنّه ما زال يدور في نطاق 15.7 جنيهاً للدولار حالياً، بينما سبّب هبوط العملة الوطنية تداعيات كبيرة على معيشة أغلب المصريين، ولا سيما الفقراء وذوي الدخول المتوسطة.
وتتصاعد المخاوف من دخول مصر نفق تهاوي العملات الذي انزلقت إليه العديد من دول المنطقة العربية، فضلاً عن تركيا التي تشهد أسواقها ارتباكاً حاداً بفعل تدهور الليرة، رغم المؤشرات القوية للاقتصاد.
ويبدو أنّ وصف "الملطوش" سيلازم الجنيه المصري، لفترة أطول، وهو ما ظلّ ملازماً للمصريين في الأوقات العصيبة، ويدلّ على ضعف قدرة العملة الشرائية في مقابل مستلزمات الحياة.