يبدل الحوثيون من خلال الاستهداف المكثف للسفن الإسرائيلية وناقلات الدول المتعاملة مع دولة الاحتلال، الخريطة التجارية الإسرائيلية، إذ تهدد الهجمات بعزل إسرائيل.
الحوثيون يدفعون إسرائيل من خلال الهجمات إلى الاعتماد كثيراً على تجارة الترانزيت التي تحلّ في دول أخرى، ومن ثم توجهها إلى إسرائيل، ما يرفع كلفة السلع كثيراً، الأمر الذي يزيد من الضغط على الاقتصاد والمالية العامة الإسرائيلية، فضلاً عن ارتفاع مستويات التضخم وتزايد الضغوط المعيشية، ما يرفع مستويات السخط الشعبي على حكومة بنيامين نتنياهو التي عجزت عن حماية الاقتصاد من الخسائر التي يتعرض لها.
ومع العزلة التي يفرضها الحوثيون على إسرائيل بقطع بوابة الجنوب التجارية عبر استهداف السفن المارة في البحر الأحمر، من المحتمل أن تحل تركيا واليونان وإيطاليا ودول أخرى، كمحطات تصديرية بشكل أكبر لإسرائيل، أو أن يتحول بعضها إلى نقاط ترانزيت للبضائع قبل إعادة تصديرها إلى دولة الاحتلال.
وتدخل الحوثيون في الصراع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، الذي تسربت تبعاته في أنحاء المنطقة، وهاجموا سفناً في ممرات ملاحية حيوية وأطلقوا طائرات مسيَّرة وصواريخ على إسرائيل التي تبعد بأكثر من ألف ميل عن العاصمة اليمنية صنعاء، وذلك رداً على العدوان الوحشي على قطاع غزة والحصار المميت الذي يفرضه الاحتلال على سكان القطاع بمنع الغذاء والدواء عنهم.
وجاء استهداف الحوثيين ناقلة نفط نرويجية، في وقت متأخر من مساء الاثنين، كأول هجوم منذ إعلانهم، مساء السبت الماضي، أنهم سيهاجمون أي سفينة تبحر إلى إسرائيل، أياً كانت جنسيتها، بعدما كانت هجماتهم مقتصرة في الأسابيع الماضية على السفن الإسرائيلية فقط، ما يزيد كثيراً من حالة الارتباك التجاري لدولة الاحتلال، ويهدد أسواقها الداخلية والخارجية.
الحوثيون يضربون تجارة إسرائيل
وفق بيانات البنك الدولي، فإن التجارة السلعية لإسرائيل مثلت 34.6% من ناتجها المحلي خلال العام الماضي 2022، الذي بلغ نحو 522 مليار دولار. وبلغت قيمة الصادرات السلعية الإسرائيلية نحو 73.8 مليار دولار، فيما وصلت الواردات إلى 107.2 مليارات دولار. وأشارت دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل أخيراً، إلى أن موانئ إسرائيل في عام 2022 فرغت بضائع حمولتها، وهي تزن 40.6 مليون طن، فيما حملت للخارج بضائع بلغت حمولتها 18.2 مليون طن.
وتظهر البيانات الرسمية أن الدول الآسيوية تُعَدّ الأكثر وزناً في التعاملات التجارية مع إسرائيل، ولا سيما الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام والفيليبين، فضلاً عن دول عربية طبّعت مع حكومة الاحتلال في السنوات الأخيرة.
والصين ثاني أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال بعد الولايات المتحدة، وفق البيانات الرسمية الإسرائيلية، وفي عام 2022 بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين، نحو 24.45 مليار دولار، بزيادة قدرها 11.6% عن العام السابق. وفي وقت سابق من العام الجاري كانت إسرائيل قد أحرزت تقدماً في مفاوضاتها لإبرام اتفاقية للتجارة الحرة مع بكين، وفق صحيفة "غلوبس" الاقتصادية الإسرائيلية أخيراً.
كذلك بلغ حجم التبادل التجاري بين إسرائيل وفيتنام في عام 2022 نحو 1.46 مليار دولار، بزيادة نحو 6% مقارنة بعام 2021. وكان الكيان المحتل في طريقه أيضاً لإبرام اتفاقية للتجارة الحرة مع فيتنام، في خطوة مماثلة لما قامت به دولة الاحتلال في السنوات الأخيرة مع كوريا الجنوبية والإمارات العربية المتحدة.
ووصل التبادل التجاري بين إسرائيل والفيليبين العام الماضي إلى 534 مليون دولار، بزيادة بلغت نسبتها 70% عن 2021، وذلك بعد تراجع خلال سنوات سابقة، وهي قيمة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات التجارية بينهما. وتصدر إسرائيل إلى الأسواق الفيليبينية منتجات إلكترونية وزراعية، وغذائية، وطبية، ودفاعية.
ووفق البيانات الإسرائيلية، يُقدَّر التبادل التجاريّ مع اليابان بأكثر من 3.5 مليارات دولار، منها نحو 1.3 مليار دولار صادرات إسرائيلية للدولة الآسيوية، فيما تجاوز التبادل التجاري بين إسرائيل وكوريا الجنوبية 3.5 مليارات دولار.
وعلى صعيد الدول العربية الواقعة في قارة آسيا، وصل التبادل التجاري الإماراتي مع إسرائيل إلى 2.56 مليار دولار عام 2022، ودخل البلدان في اتفاق تجارة حرة في إبريل/ نيسان من هذا العام، بعد تطبيع العلاقات بينهما في وقت سابق، وكان من المرجّح أن تصعد التجارة إلى مستويات أعلى بفضل الاتفاق الجديد، لتصل إلى 3 مليارات دولار في نهاية العام الحالي.
ارتباك تجاري وتغيير مسارات
وتهدد الهجمات الحوثية التبادلات الضخمة لإسرائيل المارة عبر البحر الأحمر مع هذه الدول، ما يصيب تعاملاتها بارتباك شديد ويغير مساراتها ويزيد من كلفتها كثيراً، بينما قد تتجه سريعاً إلى بدائل أخرى، وفق محللين، ومنها تركيا، حتى لو كانت العلاقات معها متوترة بفعل الحرب على غزة، فضلاً عن توسيع الاعتماد على دول أخرى بعيدة عن مرمى الاستهداف الحوثي.
وتُعد تركيا الشريك الاقتصادي الأول لإسرائيل في الشرق الأوسط بحجم تبادل تجاري يقارب الـ 9 مليارات دولار في 2022، إذ وصلت الصادرات التركية إلى 6.74 مليارات دولار، فيما بلغت وارداتها 2.17 مليار دولار، أغلبها من الوقود، وفق بيانات التجارة الصادرة عن معهد الإحصاء التركي.
يقول المحلل الاقتصادي التركي طه عودة أوغلو، إن "تركيا قد تكون طوق نجاة تجاري لإسرائيل، للحصول على ما تحتاجه من سلع ومنتجات بشكل مباشر أو دول أخرى أوروبية تصل إلى تركيا كنقطة ترانزيت عبر البحر الأبيض المتوسط"، مشيراً إلى أن إسرائيل حرصت على أن تبقى التعاملات التجارية مع تركيا رغم تقلصها بعد الحرب وسط توتر العلاقات.
ويضيف أوغلو لـ"العربي الجديد" أن "مصلحة تركيا، التي تجيد فصل الملف السياسي عن الاقتصادي ومصالح الشعوب على الدوام، أن تحافظ أيضاً على التبادل التجاري، رغم تراجعه إلى النصف بعد الحرب على غزة، ولا سيما ملف الطاقة"، لافتاً إلى أنه كان مطروحاً نقل الغاز الإسرائيلي لأوروبا عبر تركيا، بينما أُرجئ بسبب الحرب.
وتشكل ملاحقة الحوثيين للسفن المتجهة إلى إسرائيل، التي كان آخرها ناقلة النفط النرويجية القادمة من ماليزيا، التي أطلق الحوثيون عليها صاروخاً قرب باب المندب، ضغطاً كبيراً على إسرائيل، فبجانب تغير المسارات التجارية، تتزايد الضغوط الداخلية على مستويات الأسعار.
وأدرجت سوق التأمين في لندن جنوب البحر الأحمر ضمن المناطق عالية المخاطر، ويتعين على السفن إخطار شركات التأمين بإبحارها عبر هذه المناطق، وكذلك دفع علاوة إضافية عادة لفترة تغطية مدتها سبعة أيام. وتعكس تكاليف الشحن المتزايدة بفعل هجمات الحوثيين، تصاعد علاوات مخاطر الحرب التي راوحت هذا الأسبوع بين 0.1% و0.15% إلى 0.2% من قيمة السفينة، مقارنة بـ 0.07% الأسبوع الماضي، وفقاً لتقديرات سوق التامين، الصادرة يوم الثلاثاء.
ويقول المحلل الاقتصادي التركي، سمير صالحة، لـ"العربي الجديد"، إن تهديد الحوثيين تجارة إسرائيل المارة في البحر الأحمر جنوباً تشكل عامل ضغط إضافي داخل إسرائيل على حكومة بنيامين نتنياهو الذي طلب من الرئيس الأميركي جو بايدن والقادة الأوروبيين اتخاذ إجراءات لمواجهة الوضع وفكّ الحصار البحري.
ويضيف صالحة أن "التطورات باليمن، بصرف النظر عن نذرها بتوسع الحرب، ستؤثر مرحلياً في التجارة وتكاليف التصدير والاستيراد لإسرائيل، التي تضطر، بواقع استمرار اعتراض الحوثيين للسفن، إلى الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح أو تتجه إلى تجارة التزانزيت".
ويرى المحلل الاقتصادي التركي، يوسف كاتب أوغلو، أن تركيا لن تنهج "طريق المستفيد من أزمة غزة، سواء للوساطة أو لمدّ إسرائيل بما يتعذر وصوله عبر البحر الأحمر، حتى وإن تكلفت أعباءً مالية وخسائر اقتصادية"، معتبراً أن "تضييق الحصار على إسرائيل يصبّ في مصلحة سكان غزة المحاصرين بلقمة عيشهم والمعرضين منذ أكثر من شهرين للقتل المستمر والتهجير والتطهير العرقي".
ويضيف أن "موقف تركيا من الحرب والعدوان الإسرائيلي واضح، وعبّر عنه الرئيس رجب طيب أردوغان، وكلف أنقرة نحو 5 مليارات دولار، قيمة تراجع التجارة منذ الحرب على غزة".
وكان وزير التجارة التركي، عمر بولات، قد كشف عن انخفاض التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل بأكثر من 50% منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وفيما لم يفصّل بولات أسباب هذا التراجع الحاد أو أنواع السلع، اكتفى بالقول إن الأمر مرتبط بطلبات التجار والمستهلكين.
سخط المستهلكين يضغط على نتنياهو
ويقول أوغلو إن الخسائر المباشرة التي تتكبدها إسرائيل بفعل استهداف تجارتها في البحر الأحمر ليست وحدها المؤثرة، بل أيضاً ارتفاع الأسعار في السوق الداخلية الإسرائيلية وزيادة الغضب بالشارع، الذي قد يثني حكومة نتنياهو عن الاستمرار في الحرب والقتل.
ومرت العلاقات بين تركيا وإسرائيل بأطوار متباينة، تخللتها قطيعة بعد تأزم إثر الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2008، لتتدهور وتصل إلى حد القطيعة، بعد اعتراض البحرية الإسرائيلية "أسطول الحرية" في 31 مايو/أيار 2010، وقتل "الكوماندوز" الإسرائيلي 10 ناشطين أتراك، وهو ما دفع أنقرة وقتذاك إلى طرد السفير الإسرائيلي، كذلك جمدت التعاون العسكري وتبادل المعلومات المخابراتية، وألغت تدريبات عسكرية مشتركة، من دون التطرق إلى الاقتصاد أو وقف التبادل التجاري بين البلدين.
وبعد ملامح عودة العلاقات واستئناف التبادل الدبلوماسي عام 2016، وتصريح أردوغان وقتها بأن "العلاقات الاقتصادية ستبدأ بالتحسن"، عاد التوتر عام 2018 من جديد في العلاقات بين البلدين، بسبب الموقف التركي من العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، قبل أن تنتعش خلال العام الأخير ويعود السفراء ويتبادل مسؤولو البلدين الزيارات، لتزيد الآمال بالاستثمارات المشتركة وزيادة حجم التبادل إلى 15 مليار دولار.
لكن في ظل توتر العلاقات القائم مع تركيا، يرى محللون أن إسرائيل قد تلجأ إلى تنويع نقاط تجارتها مع دول أوروبية أخرى على غرار اليونان وإيطاليا، حيث لن تكتفي بزيادة التعاملات التجارية معها، بل ستتحول هذه الدول إلى محطات ترانزيت من أجل إيصال السلع إلى إسرائيل عبر البحر المتوسط.
وبلغت قيمة التبادل التجاري بين إسرائيل وأوروبا العام الماضي أكثر من 52 مليار دولار، حيث استوردت تل أبيب، بحسب المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب "إي سي سي آي"، ما قيمته 34.3 مليار دولار، وصدّرت بنحو 18 ملياراً.
وبلغت التبادلات التجارية بين ألمانيا وإسرائيل نحو 8.94 مليارات دولار في 2022، ومع بريطانيا 8.75 مليارات دولار، وفرنسا أكثر من 4 مليارات دولار، وهولندا نحو 2.44 مليار دولار.
ويرى مراقبون أن ما يقوم به الحوثيون سيؤثر في التجارة الاسرائيلية كثيراً، لأن إسرائيل لا تمارس أي تجارة من طريق البر، بل تعتمد كثيراً على موانئها البحرية التي يمرّ عبرها أكثر من 98% من تجارة البضائع الإسرائيلية، فضلاً عن أن تجارة إسرائيل قد تحولت بمعظمها إلى دول شرق وجنوب شرق آسيا في السنوات الأخيرة، ما يعني أن تجارتها باتت تعتمد أكثر على الخطوط البحرية التي تمر عبر مضيق باب المندب وقناة السويس.
وفي عام 2006، وصل نحو 191 ألف حاوية بضائع إلى الشواطئ الإسرائيلية من شرق آسيا، بينما جاءت 268 ألف حاوية من أوروبا الغربية. ولكن بحلول عام 2019، جرى تفريغ ما يقرب من 278 ألف حاوية قادمة من آسيا في موانئ أشدود وحيفا، بينما انخفض العدد من أوروبا الغربية إلى نحو 260 ألف حاوية، وفق صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.
ووفق موقع "غلوبس" الإسرائيلي، فإن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر أدت إلى ارتفاع أسعار النقل من الصين إلى إسرائيل خلال أسبوع بنسبة تراوح بين 9% و14% في الأسبوعين الأخيرين من أكتوبر/تشرين الأول.
واعترف يهودا ليفين، رئيس قسم الأبحاث في شركة "Freightos" للتكنولوجيا الفائقة، وهي منصة رقمية لإدارة الشحن باستخدام سفن الشحن والطائرات والشاحنات التي تسمح للمستوردين والمصدّرين بمقارنة أسعار الشحن في الوقت الفعلي، بزيادة أسعار الشحن للسفن المغادرة والداخلة موانئ إسرائيل من الصين بعد الحرب.
لا يقتصر الأمر على ارتفاع أسعار الشحن والتأمين وتغيير السفن الإسرائيلية لمسارها، بل يصاحبه أيضاً تأخيرات واختناقات مرورية بأعداد أكبر من المعتاد، إذ أبلغت شركة الشحن "MSC" عن اختناقات مرورية عند مدخل ميناء أشدود، وحوّلت شركة "Evergreen" السفن إلى حيفا البعيدة نسبيّاً عن صواريخ المقاومة الفلسطينية.