باتت قيمة الخبز أغلى من الذهب في غزة بعد مرور 110 أيام من العدوان الإسرائيلي والحصار المطبق على القطاع، إذ اندفع الفلسطينيون لبيع مدخراتهم من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية.
ولم تجِد الفلسطينية سوزان أبو المِعزة سبيلا للتغلب على الأزمة المالية الخانِقة التي تمُر بها أسرتها مُنذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سوى بيع قِلادة أهداها إياها زوجها قبل وفاته بأقل من ثمنها المُستحق، وذلك لتوفير ثمن المُستلزمات الأساسية لأبنائها داخل إحدى مدارس اللجوء.
وتتفاقم الأحوال المالية لدى الأُسر الفلسطينية في مُختلف مُحافظات قطاع غزة يوما بعد الآخر بفِعل تبِعات العدوان الإسرائيلي، والذي يترافق مع حِصار مُشدد، أُغلقت على أثره المعابر المؤدية إلى القطاع، كما تعطلت فيه مُعظِم المِهن التي يقتات منها أصحابها، ما دفع عددا منهم إلى إيجاد بدائل مؤقتة، وإن كانت صعبة، تتمثل في بيع حلي النِساء أو غيرها من المُقتنيات من أجل الحصول على الخبز وأبسط الاحتياجات لكي يبقوا على قيد الحياة.
واستهدف الاحتلال تدمير المخابز ومخازن الغذاء، الأمر الذي ساهم في شح كبير بالسلع الضرورية.
ولم تكُن الظروف القاسية التي تفرِضها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الحلقة الأولى في الأزمة، حيث سبقها حِصار إسرائيلي بدأ قبل نحو سبعة عشر عاما، وتسبب بآثار سلبية أصابت مُختلف نواحي الحياة الاقتصادية، والمعيشية، والإنسانية، والاجتماعية.
نفاد المواد الغذائية
وتتزامن الظروف القاسية التي تُحيط بالمدنيين الفلسطينيين مع تحديات جسيمة بفِعل الاستهداف الإسرائيلي المُباشِر للبيوت والمُنشآت والأبراج السكنية، مع نفاد المواد الغذائية بسبب إغلاق المعابر، ومنع دخول الأدوية والمُساعدات الإنسانية والإغاثية، ما تسبب بتفاقُم الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق.
وتقول سوزان أبو المِعزة، والتي كانت تزور أحد محال بيع الذهب في مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، لـ"العربي الجديد"، إنها اضطرت لبيع قلادتها ذات القيمة المعنوية الكبيرة لحاجتها الماسة إلى توفير قوت يوم أطفالها، خاصة مع انقطاع المُساعدات المالية التي كانت تُعينها على توفير احتياجاتها الضرورية.
وتلفت أبو المعزة إلى أن الحالة الاقتصادية الصعبة لأسرتها تتزامن أيضاً مع الغلاء الكبير في مُختلف أسعار السِلع الأساسية، وتضيف: "نحن نعيش حرباً أخرى إلى جانب الحرب الخطيرة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، تتمثل في عدم قدرتنا على توفير لقمة العيش، أو حتى أدنى مُقومات الحياة الآدمية".
ولم تتمكن أبو المِعزة من إخفاء ملامح القلق من الأيام القادِمة، والتي ارتسمت على ملامحها، مُعللة قلقها بالقول: "تمكنت اليوم من بيع قلادتي العزيزة، والتي لم أتخيل أن أفرط بها في يوم من الأيام، لكن ما يخيفني ويُحيرني هو مدى استمرار الحرب، وحالة الغلاء الفاحِش حتى في المواد الغذائية".
نقاط عشوائية لبيع الذهب
وتشهد أسواق المُحافظات الوسطى والجنوبية، والتي تكتظ بنحو مليوني نازح فلسطيني، ظاهرة جديدة، تتمثل في نقاط عشوائية (بسطات) لبيع وشراء الذهب، والذي كان يقتصر غالبا على سوق الذهب أو المحال التجارية المُعتمدة، والتي تخضع إلى شروط ومعايير مُحددة، وذلك لاتجاه نسبة كبيرة من النساء إلى بيع ذهبهن بغرض شراء المواد الغذائية.
وتسبب في زيادة نسبة تلك الظاهرة انقطاع المُساعدات المالية للأسر الفقيرة والمُتعففة، والتي كان يعتمد عليها ما يزيد عن 80% من سُكان قطاع غزة قبل بدء الحرب، فيما كان يُعاني من زيادة في نسب البطالة، والتي تخطت حاجز 65%، والبطالة في صفوف الشباب والتي تجاوزت 70%، إلى جانب الزيادة الملحوظة في نسبة الأُسر التي تقع تحت خط الفقر المُدقِع.
تأجيل الأفراح
أما الفلسطينية نسيبة المُغربي، والتي نزحت من مدينة غزة إلى مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، إثر التهجير الإسرائيلي القسري لمُحافظتي غزة والشمال نحو المُحافظات الوسطى والجنوبية، فتوضح أنها تبحث عن أفضل سعر لبيع أونصة ذهب كانت تدخرها لزواج ابنها البِكر عبد الله، بغرض توفير نقود تعين أسرتها على تدبير أمورها خلال العدوان.
وتوضح المُغربي لـ"العربي الجديد"، أن أسرتها اضطرت لشراء كافة الاحتياجات الضرورية، كالملابس والفِراش، وغيرها من المُتطلبات التي استنفدت قُدرتها المادية، وتقول "كُنا نتجهز في منزلنا لأي طارئ، ونوفر المونة الأساسية، والوقود، والغاز، لكننا اضطررنا لترك كل ذلك بعد تهجيرنا القسري، ما استدعى شراء كل تلك الأدوات مُجددا، ولكن بأسعار مُضاعفة نتيجة شُح البضائع في الأسواق".
وتلفت المُغربي إلى أن عائلتها كانت تتجهز لفرح نجلها بعد شهر رمضان، إلا أن العدوان الإسرائيلي تسبب بإلغاء كافة التجهيزات، خاصة بعد ارتقاء عدد كبير من الشهداء من العائلة، وتقول "مررنا قبل الحرب بالكثير من الظروف الصعبة بسبب تذبذب عمل أبنائي، إلا أنني لم أُفكر في بيع الأونصة، لكنني اضطررت لذلك بفعل الظروف الاستثنائية وغير المسبوقة والتي تسبب بها العدوان الإسرائيلي".
مدخرات تحت الأنقاض
وتعددت أوجه المُعاناة خلال الحرب الإسرائيلية في شهرها الرابِع، حيث تسببت بفقدان آلاف الفلسطينيين شقاء العُمر المُتمثل في البيوت والشُقق السكنية التي تحولت إلى أثر بعد عين، كذلك فقدان مُدخراتهم المالية تحت الأنقاض، إذ لا تُمهل الطائرات الحربية السُكان سوى دقائق لإخلاء البيوت المُهددة بالقصف، أو تقصفها على رؤوس من فيها بدون أي سابِق إنذار.
ويقول الفلسطيني محمد عبد الرزاق، وهو صاحب محل خاص بمواد التجميل في حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، إنه نزح برفقة عائلته إلى منطقة حي تل السُلطان، غربي مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، تارِكا خلفه شقاء العُمر، المتمثل في محله التجاري، وقد فوجئ بفيديوهات تُظهر المحل وهو رُكام بسبب تدمير الدبابات الإسرائيلية سوق الشجاعية الشعبي خلال العملية البرية.
ويلفت عبد الرزاق، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه سدد قبل الحرب كافة الديون التي عليه للتوسع في تجارته، ويقول: "كنت أجهز مبلغا ماليا لشراء شاحنة بضائع نقدا وبسعر أفضل من الشراء بالدَين، لكنني خسرت المبلغ تحت الرُكام، إذ لم أتمكن من إخلاء البضائع أو النقود، بعدما هرعت برفقة أشقائي نحو البيت لإخلاء الأطفال والنساء إثر تهديد المنطقة التي نقطن فيها بالقصف".
تعددت أوجه المُعاناة خلال الحرب الإسرائيلية في شهرها الرابِع، حيث تسببت بفقدان آلاف الفلسطينيين شقاء العُمر المُتمثل في البيوت والشُقق السكنية التي تحولت إلى أثر بعد عين
ويُضيف: "مُنذ اللحظة الأولى التي فقدت فيها تجارتي وبضاعتي ونقودي وأنا أسمع عبارة (في المال ولا في العيال)، لكنني مُقتنع تماما بأن المال يُعادِل الروح، خاصة في منطقة مثل غزة، والتي تشهد ظروفا استثنائية حتى ما قبل الحرب، بالكاد تُمكِّن الشخص من الرِبح في تجارته بفعل الظروف الصعبة، والقدرات الشرائية الضعيفة للمواطنين".
الاحتلال ينهب أموال الفلسطينيين
وإلى جانب خسارة الفلسطينيين أموالهم ومُدخراتهم تحت الرُكام، وعدم قدرتهم على الحصول على المُساعدات المالية، فقد سجلت عدة مؤسسات ومراكز حقوقية، ومنها المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، روايات لفلسطينيين تحدثوا عن نهب قوات الاحتلال الإسرائيلي الأموال والذهب خلال عمليات المُداهمة والتفتيش لمنازل المواطنين الذين أخلوا بيوتهم ونزحوا نحو المناطق التي يدّعي الاحتلال أنها "آمِنة"، وهو ما يُضاعِف قساوة واقِع النزوح الذي فُرِض عليهم قسرا.