تتوارى الأشغال اليدوية والحرفية السياحية في مصر، وسط موجات الركود وتدهور الجنيه الذي غير الكثير من ملامح الإنفاق، ليس فقط على المواطنين، بل امتد إلى السياح الوافدين.
يجلس إبراهيم إمام على أريكة خشبية ورثها أباً عن جد، يستكمل لوحة، شرع العمل بها منذ أسابيع، في محله القديم، في ممر الخيامية المقابل لبوابة زويلة، إحدى البوابات الشهيرة على مداخل القاهرة الفاطمية.
يعيد إمام ترتيب لوحات مزركشة، صنعها بيديه، من أقمشة الخيام، ويزيل أتربة تراكمت، عن بضائع أخرى، إذ تعلّم منذ نعومة أظفاره فنون الحرفة، حيث يغزل الخيوط من الصوف والحرير والأقطان، ويقص القماش الملون، ليعيد توظيفه في أشكال هندسية وفنية، ينسج قطعاً تنطق بجمال الفن الإسلامي، وأخرى تحمل عبق الطبيعة وما تحويه من مناظر خلابة وأزهار وحيوانات برية.
لا يحتاج الرجل إلا استثماراً بسيطاً، يوفر له ثمن الغزول والقماش المتين، والأهم جلوس القرفصاء طوال 12 ساعة يومياً وهو يعمل، فقد تلقى من أبيه وجده فنون الصبر، التي تدفعه إلى مواصلة العمل في بعض اللوحات عدة أشهر، حبيس مقعده، كأنّه سجين المهنة والفن ولقمة العيش، لكنّه في المقابل لا يجد مردوداً مالياً يعينه على الاستمرار.
ينظر إمام إلى معروضاته الزاهية بحسرة، فينهض مسرعاً لإزالة الأتربة التي تقتحم دكانه العتيق. تكشف حركته عن توتر، ظل بعيداً عن "الخيامية" المشهورين بالصبر وانتظار الأمل القادم يوماً في نهاية النفق، يعيشون في ظلاله لمواسم عدة.
يبدي إمام في مقابلة مع "العربي الجديد" أسفاً على أوضاعه السيئة التي طاولته هو وغيره من أرباب المهنة الكبار، حيث ندرت حركة السائحين في المنطقة الأثرية الشهيرة، المربوطة بشارع المعز لدين الله المجاور للجامع الأزهر، وامتداداً حتى ميدان الأزهر والحسين، وخان الخليلي ووسط القاهرة.
"لا بيع ولا شراء، بل مصروفات وخسائر مستمرة، مع زيادة الضرائب وإيجارات المحلات"... هكذا يلخص إمام حال "الخيامية" منذ عشر سنوات، زادت حدتها في الأعوام الثلاثة الماضية، مع انتشار وباء كورونا، الذي أوقف حركة السائحين تماماً، ولحقت بها نكسة الحرب الروسية في أوكرانيا، التي أطاحت ثلث أعداد السائحين، وفقاً لتقديرات رسمية.
يأتي السائحون الجدد فرادى، ليشاهدوا المعروضات وينصرفوا، وفقاً لرواية إمام وجيرانه في مهنة "الخيامية"، الذين شاركونا بالحوار. يؤكد الصناع المهرة أن السياح الجدد، من ذوي الدخل الضعيف، تأتي بهم الشركات، مقابل بضعة دولارات، للإقامة والتنزه، لساعات أو أيام قليلة، فغاب الزبون القادر على اقتناء هدايا، واختفى السائح العربي، ومعه الطبقة المتوسطة من المصريين الذين يكافحون لتوفير رواتبهم لتغطية الحد الأدنى من أعباء الحياة. دفع الركود أكثر جيرانه من "الخيامية" إلى تحويل محلاتهم لبيع الهدايا المقلدة، وأخرى انغمست في عرض منتجات موسمية، منها فوانيس رمضان وملابس "بابا نويل" و"سوبرمان" و"سلاحف النينجا".
يبدي "الخيامية" مخاوفهم من تراجع صناعة عريقة عرفها المصريون منذ مئات السنين، تشهد على دقتهم المتاحف والقصور التي ما زالت تتزين بلوحاتهم، خصوصاً بعد أن توقفت الحكومة عن دعم المشروعات الصغيرة الذي كان يتمثل بمساعدتهم في تسويق منتجاتهم في الأسواق الدولية والأماكن السياحية، أو المشاركة في المعارض التي تنظمها وزارات السياحة أو الآثار والمحافظات.
يشير العارضون إلى تعطيل البرلمان لمشروع قانون دعم المشروعات الصغيرة، كان مقرراً صدوره العام الماضي، يسمح بحصول المشروعات على منح وقروض ميسرة تمكنهم من شراء مدخلات الإنتاج، والتسويق الجماعي.
يقول رئيس لجنة المشروعات الصغيرة في جمعية رجال الأعمال، حسن الشافعي لـ"العربي الجديد" إن القانون يستهدف تسهيل أعمال نحو 250 ألف شركة صغيرة ومتوسطة، تعاني من مشاكل في تدبير مستلزمات الإنتاج والتضخم والبيروقراطية بالأجهزة المحلية.
حصل الشافعي على وعودة عديدة، من الحكومة بإنجاز القانون المعطل صدوره، بينما ينتظر وملايين الأسر التي تتطلع إليه كطوق إنقاذ لها من حالة الركود المزمنة والخسائر التي تدفعهم إلى البطالة أو البحث عن أعمال عشوائية أخرى وعلى رأسها قيادة التوكتوك (عربة من ثلاث عجلات تنقل الأشخاص) أو بيع السلع الرديئة القادمة من الصين وغيرها، بينما تُدمر الصناعات الحرفية التي تتميز بها مصر، ولا تكلف الدولة إلا القليل من الرعاية وتوفير الحد الأدنى من المساعدات للحرفيين.
يدفع الغلاء "الخيامية" إلى الوقوع في براثن البطالة والفقر، رغم حرصهم على عدم رفع أسعار منتجاتهم، التي يبذلون فيها كثيراً من الوقت، فكل أملهم توفير نفقاتهم اليومية، وإيجار المحلات، التي تنتظر فرجاً في يوم آتٍ، وفق إمام.
وحذر تقرير أصدره البنك الدولي، في إبريل/ نيسان الماضي، من زيادة معدلات الفقر في العام المالي الحالي 2022- 2023 الذي ينقضي بنهاية يونيو/ حزيران المقبل. ويبدي التقرير مخاوفه من أن تدفع أحوال السوق السيئة إلى تزايد معدلات البطالة، بما يرفع معدلات الفقر.
ويقدر البنك الدولي معدلات الفقر بنسبة 29.7%، وفقاً للبيانات الحكومية لعامي 2019-2020، بينما يقول خبراء اقتصاد إن النسبة الحقيقية لا تقل عن 60% من السكان البالغ عددهم 104 ملايين نسمة.
ووفق البنك الدولي، فإن الزيادة التي قررتها الحكومة برفع الحد الأدنى للدخل، ودعم المعاشات والغذاء ومخصصات تكافل وكرامة، لحماية الأسر المعيلة، لن تكون قادرة على سدادها، مع ارتفاع معدلات خدمة الدين العام الذي بلغ معدلات قياسية، بالدولار والجنيه.
وتوقع انخفاض معدلات النمو للناتج الإجمالي إلى أقل من 3.8%، بما يهدد مشروعات التنمية والتشغيل، مؤكداً أن مصر لا تزال تواجه أزمة عملة أجنبية وارتفاعاً في أسعار السلع وزيادة حادة في تكاليف الاقتراض، ناجمة عن الصدمات العالمية المفرطة، والضعف الموجود من قبل، بما في ذلك تباطؤ الأنشطة المدرة للعملة الصعبة.