في قصيدته بعنوان "أغنية الشرق والغرب" (The Ballad of East and West)، يقول الشاعر والقاص الإنكليزي روديارد كبلينغ، (1865 - 1936) الجملة الشهيرة "الشرق شرق، والغرب غرب، والاثنان لا يلتقيان". وقد ورد تفسير ما قصده الشاعر في أقصوصته الشعرية من وحي قصة عن المنافسة بين الهندي كمال وابن جنرال إنكليزي. وفي نهايتها يقول الشاعر تلك الجملة الشهيرة: "إنّ التقسيم سيبقى قائماً حتى يواجه الجميع الحياة الآخرة حيث لا غرب ولا شرق، ولا ضغائن وأحقاد موروثة".
تذكّرت تلك القصيدة عندما استمعت الأسبوع الماضي إلى محاضرة حية على شبكات الاتصال الإلكترونية، يلقيها الاقتصادي والدبلوماسي السنغافوري ذو الأصول السندية، كيشورو ماهبوباني، عن كتابه الجديد بعنوان "كيف خسر الغرب" (How the West Lost it). وتأملت من صحة هذا السؤال أكثر عندما شاهدت مقابلة على التلفزيون الصيني (CGTN) مع رئيس وزراء فنلندا السابق أليكساندر ستاب.
انصبّ الحوار مع رئيس الوزراء الفنلندي ستاب (Stubb) في قضيتين أساسيتين. إمكانية دخول كل من فنلندا والسويد إلى عضوية منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وموقف روسيا وردة فعلها المحتملة على ذلك. التناقص في قيمة روسيا الاقتصادية سببه حالة "اللاسلام" الناتجة عن عدوان القوات الروسية على أوكرانيا في الحرب التي فات عليها حوالي ستين يوماً (منذ 24 فبراير/ شباط الماضي) وما تبع ذلك من مقاطعة اقتصادية وسياسية لروسيا من دول مهمة، مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي جزئياً، وكندا والمملكة المتحدة، وغيرها.
ويؤكد ستاب أنّ خسائر روسيا الاقتصادية ستكون عظيمة جداً، وأنّها سوف تؤثر على مستوى الرفاه والمعيشة فيها، وستجد روسيا أنّ التغيير في قيمة اقتصادها نحو مستوياتٍ أدنى سيكون كبيراً. ولذلك، فإنّه يدعو روسيا إلى سرعة إحلال السلام في أوكرانيا والخروج من الحرب. وهو ما عكسه مقال نُشِر قبل أسبوع أو أكثر في صحيفة نيويورك تايمز بقلم توماس فريدمان، يخاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "اصنع السلام بسرعة أيها الساذج".
والأنكى من ذلك، أنّ التطورات السياسية والعسكرية على الأرض لا توحي بأنّ أيّاً من الطرفين يريد أن يتنازل إلى القدر الذي قد يجعله يبدو خاسراً فيخسر كرامته، ما يجعل احتمال الوصول إلى أي اتفاقٍ لإنهاء الحرب مستبعداً في المدى المنظور. هذا كله سوف يقود العالم إلى أزماتٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ ووجوديةٍ إن طال الصراع وازداد أواره اشتعالاً.
أما كتاب "هل خسر الغرب؟" فإنّه يأتي مثل رشّة ماء باردة على وجه الدول الغربية.
ويؤكد المؤلف ماهبوباني أن الغرب قد ساهم في القرنين الماضيين، عبر الاختراعات والاكتشافات العلمية والتقنية، في حلّ مشكلات معيشية كثيرة متردّية، ما زاد من رفاهية سكان العالم ومستوى معيشتهم. وهو إنجاز كبير يسجّل للغرب.
لكن هذا النجاح أدّى إلى زيادة غرور الدول الغربية، ورفضها فكر الآخرين، وإلى تشبثها بمواقفها واستنتاجاتها، ما أدّى إلى ارتكابها أخطاء فادحة. ومن جملة هذه الأخطاء إيمانها الراسخ، عقوداً، أنّ الصين التي لم يشكل اقتصادها قبل أربعين عاماً سوى عُشْر الاقتصاد الأميركي (أو 2% من الناتج المحلي الإجمالي الدولي) لا يمكن أن تلحق بالاقتصاد الأميركي الذي كان يشكل خُمْس الاقتصاد الدولي كله.
وانطبق التحليل نفسه على الهند التي باتت صاحبة أقوى خامس اقتصاد في العالم، وحتى على دول مجموعة "آسيان" التي بلغ عدد أعضائها عشر دول، يقدّر أن تسبق أوروبا بعد سنوات في قيمة مساهمتها للناتج المحلي الإجمالي العالمي مقاساً بالقوة الشرائية. وتضم مجموعة دول جنوب شرق آسيا كلّاً من إندونيسيا، ماليزيا، تايلاند، الفلبين، بروناي، كمبوديا، لاوس، ميانمار، سنغافورة، فيتنام. ويقدّر أن يرتفع نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي، لتحتل المركز الرابع عام 2030 بعد الصين والولايات المتحدة والهند.
ويقول الكاتب إنّ غرور الغرب أفقده البصيرة عما يجري في العالم، إلى أن أفاق على الصين وقد تبوأت المركز الأول عالمياً، إذا قسنا إنتاجها بالقوة الشرائية. أما الهند فسوف تحتل المركز الثاني خلال عقد... ولذلك، يطالب الكاتب الغرب بالعودة إلى ما يسميه أحرف "M" الثلاثة، وهي الشيوع (minimalism)، والتعاون الإقليمي (multilateralism)، وثالثاً اقتصاد السوق (market value).
ويقول الكاتب إن المطلوب هو العودة إلى الحدود الدنيا من الأنانية والكبرياء، حتى يستطيع العالم أن يجد وسيلة للتفاهم مع بعضه بعضا. ويقدّم المؤلف مثالاً على تصرّفات الغرب (الولايات المتحدة) في حربها ضد أفغانستان والعراق وفنزويلا وكوبا. وممارسة المقاطعة الفاشلة، والتي أدّت إلى إشعال حروب ضيعت على العالم كثيراً من مكاسبه.
وقال إنّ مجموعة آسيان رفضت فرض عقوبات على ميانمار، لمّا ارتكب جيشها مذبحة ضد الروهينغا المسلمين، بل آثرت أن تدعمها وتحسّن اقتصادها، حتى تزول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه المذابح، حسب رأيه، وهي الفقر والبطالة وسوء الأحوال المعيشية. وفي ما يتعلق بالتعاون الإقليمي، فهو أفضل الحلول.
ولو بقيت دول آسيان المؤسّسة للمجموعة أو من تلاها في العضوية من دول الهند الصينية كلٌّ يعمل وحده، لما تحقّق النجاح الذي تتمتع به اقتصاديات هذه الدول، وما ينتظرها من نجاح قادم. وأكد في المفهوم الثالث على العودة إلى المبادئ الأساسية للاقتصاد الحر، القائم على حرية التبادل والعودة إلى إحياء دور منظمة التجارة العالمية.
من الواضح أنّ الحرب الغربية مع روسيا (لم تعد مجرّد روسيا ضد أوكرانيا) تعكس وجهة نظر مخالفة تماماً للأفكار التي يطرحها كيشورو ماهبوباني. فهل هذا التباين في الأفكار هو الذي سيفرض وقعه في المستقبل، عندما تتحول المواجهة من الغرب والغرب إلى مواجهة بين الغرب والشرق؟