يتعامل الاقتصاديون والساسة في الولايات المتحدة، كما في أغلب دول العالم، هذه الأيام على أساس أن الارتفاعات الهائلة في أسعار الغاز الطبيعي، التي بدأت مطلع العام الحالي وما زالت مستمرة، إنما جاءت لتبقى.
وأعلنت إدارة معلومات الطاقة في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي آخر تقدير لها لمخزونات الغاز الطبيعي عن الأسبوع المنتهي في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر / أيلول الماضي بنحو 3170 مليار قدم مكعبة، مرتفعاً بأقل من 3% عن الأسبوع السابق، لكن منخفضاً بنسبة 19% عن نفس الفترة من العام الماضي، وبنسبة 7% عن متوسط السنوات الخمس الأخيرة، وهو ما اعتبر، تاريخياً، علامة ترجح استمرار الارتفاع في أسعار الغاز الطبيعي.
توقعت معلومات الطاقة الأميركية في أحدث تقاريرها عن الغاز الطبيعي استمرار الأسعار المرتفعة لسنوات، بسبب تراجع نسبة الفحم والطاقة النووية في إنتاج الكهرباء
وتوقعت الإدارة في أحدث تقاريرها الشهرية عن الغاز الطبيعي استمرار الأسعار المرتفعة لسنوات، بسبب تراجع نسبة الفحم والطاقة النووية في إنتاج الكهرباء، مؤكدة أن ذلك يدعم زيادة الصادرات الأميركية منه، ومشيرة في نفس الوقت إلى أنه لا يعني بالضرورة تصحيح ميزان المنتجات البترولية التجاري في الولايات المتحدة.
وأكدت الإدارة أيضاً أن النسبة العظمى من نمو استهلاك المنتجات البترولية ستكون في استخدام القطاع الصناعي للغاز المسال.
ووفاءً لأحد أبرز وعوده خلال حملة الانتخابات الرئاسية، يدعم الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، التحول باتجاه الطاقة النظيفة والابتعاد عن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ولذلك فقد توقعت إدارة معلومات الطاقة انخفاض تلك الانبعاثات لأكثر من عقد من الزمان، وعدم عودتها للنمو قبل عام 2035.
وحتى هذه اللحظة، ما زالت شركات إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة منضبطة رغم طفرات الأسعار، حيث تمحورت ردود أفعالها حول توزيع أرباح لحاملي الأسهم، وسداد مبالغ متزايدة من ديونها، وتحسين ميزانياتها بصورة واضحة.
وعلى الجانب الآخر، وبتأثير أزمات تلك الشركات العام الماضي، تخطو البنوك الأميركية خطواتها في التعامل مع تلك الشركات بحذر، حتى أنها لا توفر لها التمويل منخفض التكلفة إلى بعد أن تقوم تلك الشركات بتحسين أوضاعها المالية، وتتوقف عن السعي لزيادة إنتاجها بغض النظر عن التكلفة.
وخلافاً لما هو عليه الحال عند كبار منتجي الغاز الآخرين، لا تمتك الحكومة الأميركية شركات النفط والغاز، وإنما تسيطر على تلك الصناعة المهمة وشركات القطاع الخاص.
ومع ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي والمسال، اعتبر مراقبون العام الحالي هو الأفضل على الإطلاق لشركات إنتاج الغاز الصخري في الولايات المتحدة، إلا أن هذه الارتفاعات في الأسعار عادة ما تتسبب في زيادة العروض من شركاتٍ يعرف الجميع أنها لا تخشى المخاطرة وتلهث وراء تحقيق أفضل ربحية ممكنة.
وفي الأسابيع الأخيرة بلغ عدد منصات الغاز 104، وهو أعلى رقم منذ شهر مارس / آذار من العام الماضي، الذي شهد بداية انتشار فيروس كوفيد-19، وتسارع معدلات الوفاة المرتبطة به، داخل الأراضي الأميركية، والذي انهارت فيه أسعار النفط ووصل سعر الغاز الطبيعي لأدني مستوياته على الإطلاق.
يستفيد منتجو الغاز في الولايات المتحدة من ارتفاع أسعار الغاز المباع داخل بلادهم، أو خارجها حيث تصل أسعاره إلى ثلاثة أضعاف السعر المحلي
وحتى المناطق التي لا يتوفر فيها حالياً منصات مخصصة لإنتاج الغاز الطبيعي، يتم زيادة المنصات الخاصة بإنتاج الزيت الخام فيها، وهو ما يعني زيادة إنتاج الغاز المصاحب لإنتاج النفط من تلك المنصات، وإن كانت هناك فجوات زمنية.
ويستفيد منتجو الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة من ارتفاع أسعار الغاز المباع داخل بلادهم، أو خارجها حيث تصل أسعاره إلى ثلاثة أضعاف السعر المحلي، إلا أن هناك حداً لمقدار ما يمكنهم تصديره إلى أوروبا أو آسيا. وحالياً، يتم استغلال كامل طاقة المرافق على طول ساحل الخليج الأميركي الذي يتم تصدر الغاز الطبيعي المسال منه.
وحاولت بعض الشركات خلال السنوات الماضية توسيع مرافق التصدير أو بناء مرافق جديدة، إلا أن انخفاض أسعار الغاز وقتها حال دون ذلك، ولم تتمكن الشركات من العثور على عددٍ كافٍ من المشترين الذين أرادوا توقيع عقود طويلة الأجل، الأمر الذي يمكن أن يتغير مع الأسعار الحالية.
ويرى شريف نافع، خبير أسواق النفط، والمدير السابق بعملاق النفط العالمي هاليبرتون، والرئيس التنفيذي حالياً لشركة The Seven Drilling Technology لتقنيات الحفر أن شركات إنتاج الغاز مستفيدة بالتأكيد، مضيفاً "أما التأثير على الشركات التي تعتمد على الغاز (كشركات الكهرباء) فله احتمالان، إما أن تكون تلك الشركات متعاقدة على بيع الكهرباء بأسعار ثابتة منذ فترة، وبالتالي يكون التأثير عليها سلبياً، حيث ترتفع تكاليف الإنتاج، أو أن تكون تعاقداتها من خلال عقود متغيرة، وهي هنا تتأثر إيجابياً، حيث إنها تحصل على تخفيضات من منتجي الغاز مع زيادة الاستهلاك، ولكن في نفس الوقت ترفع أسعار شرائح الكهرباء التي تبيعها للمستهلك".
ورغم استبعاد أسعار الطاقة شديدة التذبذب عند قياس معدل التضخم الأساسي، يلعب الغاز دوراً كبيراً في تحديد تكلفة السلع المنتجة، الأمر الذي دفع لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية الأسبوع الماضي إلى مراجعة تقديراتها لمعدل التضخم الأساسي للعام الحالي، لتضعه عند 3.7% بعد أن كانت توقعاتها في شهر يونيو / حزيران لا تتجاوز 3%.
وفي هذا السياق، يشعر المستهلكون على أعتاب فصل الشتاء بالقلق الشديد من احتمالات أن يكون عصر الغاز الطبيعي الرخيص قد ولى إلى غير رجعة، وهو ما قد يترتب عليه تبعات غير محمودة بالنسبة لهم في ما يخص تكلفة المعيشة والنشاط الاقتصادي في بلادهم ومعدلات خلق الوظائف الجديدة.
ومن المتوقع أن يمتد الأثر السلبي لارتفاع سعره الحالي من استخداماته في المنازل لتوليد الكهرباء والتدفئة إلى الصناعات المختلفة، خفيفها وثقيلها.
يشعر المستهلكون على أعتاب فصل الشتاء بالقلق الشديد من احتمالات أن يكون عصر الغاز الطبيعي الرخيص قد ولى إلى غير رجعة
ويرى محللو أسواق الطاقة أن الأمر لن يتطلب هذه المرة الوصول إلى تلك الدرجة من البرودة هذا الشتاء، لنصل إلى الأسعار غير المعهودة خلال فترة انتعاش الوقود الأحفوري الأخيرة، والتي مكنت الولايات المتحدة من التحول من صافي مستورد للغاز إلى أحد مصدريه، وأكبر منتج له في العالم.
وكانت أسعار الغاز الطبيعي المتدنية إحدى أهم مميزات الفترة التي شهدت أطول انتعاش في تاريخ الولايات المتحدة، والتي بدأت في أعقاب انتهاء الأزمة المالية العالمية، حيث انخفض سعره ولم يعاود ارتفاعه قبل بداية العام الحالي، بسبب ضخامة الكميات المستخرجة من خلال الحفر الجانبي والتكسير الهيدروليكي.