العبث الاقتصادي في اليمن والمصير المجهول

23 أكتوبر 2024
الفقر والتضخم والبطالة مؤشرات تقود اليمن إلى المجهول (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعاني مناطق نفوذ سلطتي عدن وصنعاء من سوء إدارة اقتصادية، مما أدى إلى انهيار العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر، مع تدهور القوة الشرائية للريال اليمني وارتفاع أسعار السلع والخدمات.

- السياسات الاقتصادية الخاطئة عزلت اليمن عن المجتمع الدولي، حيث فشلت السلطتان في جذب الاستثمارات وهروب رؤوس الأموال، مع عدم القدرة على حشد التمويل للمشاريع التنموية.

- الفشل في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي أدى إلى فقدان الشرعية، مما دفع الشباب للبحث عن فرص عمل خارج البلاد في ظل غياب بيئة استثمارية حاضنة.

تفيد التجارب من دول عديدة في العالم بأن سوء إدارة الشأن الاقتصادي يقود حتماً إلى انهيار بناء الدولة، وإلى تمزق النسيج الاجتماعي وانتشار الفوضى والذهاب بالوطن والإنسان إلى المجهول، وعادة ما يكون سبب ذلك اتباع سياسات اقتصادية خاطئة، والعجز عن تقديم حلول ناجعة لمعالجة الاختلالات والتحديات المالية والنقدية والتجارية التي قد تواجه البلاد في ظل الظروف العادية، فضلاً عن ظروف الحرب والدمار.

المتابع لما يجري الآن من تدهور اقتصادي في مناطق نفوذ سلطتي عدن وصنعاء سيصل إلى النتيجة نفسها. فالسلطتان، خلال فترة الحرب ومدة الهدنة المستمرة منذ ثلاث سنوات، تعاملتا مع إدارة الوضع الاقتصادي بطريقة فوضوية ولا مسؤولة، تستهدف هدر المنظومة الإنتاجية والمؤسسية للبنية الاقتصادية في البلاد، والدلائل على ذلك كثيرة تتجسد في انهيار القوة الشرائية للريال، والتصاعد المستمر لأسعار السلع والخدمات (التضخم)، وتزايد معدلات البطالة والفقر، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية.

ما يحدث هذه الأيام في مناطق سلطة عدن خير دليل على هذا العبث والفوضى في الجانب الاقتصادي، ويضع البلاد على شفا جرفٍ هارٍ، مسبباً آثاراً كارثية على حياة الناس ومعيشتهم وكرامتهم، ويمكن الإشارة إلى بعض مظاهر سوء إدارة الشأن الاقتصادي بالآتي:

- الإخفاق في إدارة الموارد السيادية العامة وفي توريدها إلى خزينة الدولة، فالموارد المالية من النفط والغاز والضرائب والجمارك تذهب إلى حسابات جهوية (عدن، مأرب، حضرموت، المخا) خارج إطار السلطة المركزية، التي اتجهت نحو تمويل نفقاتها من مصادر تضخمية من طريق الإصدار النقدي، وهذا كان له آثار كارثية على سعر صرف الريال.

- الفشل في إدارة السياسة النقدية وعدم القدرة على إدارة سعر الصرف بشكل سليم، ما جعله في حالة انهيار مخيف أو غرق حر، وهذا له انعكاسات خطيرة على مستوى دخول الناس ومعيشتهم، فقد تعدى سعر صرف الدولار حاجز ألفي ريال، ما يعني أن الريال فقد نحو 90% من قوته الشرائية مقارنة بما قبل الحرب، ويُخشى أن يستمر بالتدهور نحو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف ريال في المدى المنظور، وفي هذه الحالة سيفقد الريال قيمته ووظيفته ويفقد الناس ثرواتهم ودخولهم المقومة بالريال، وتتصاعد أسعار السلع والخدمات إلى مستويات قياسية.

من الواضح أن سوق الصرف في مناطق عدن يعاني اختلالات كبيرة، أبرزها انكماش حجم العرض من النقد الأجنبي، مع تزايد حجم الطلب على العملات الأجنبية لمواجهة فواتير الاستيراد، كذلك أصبحت سلطة عدن طرفاً مؤثراً في المنافسة للحصول على الدولار لتغطية مرتبات موظفيها خارج البلاد، ما يزيد من تدهور سعر الصرف أكثر وأكثر. وللأسف فإن الإدارة العليا لسلطة عدن قد لا تحس بمعاناة الناس وشظف عيشهم، لأنها تحصل على مرتباتها بالعملة الأجنبية أو العربية (الدولار، الريال السعودي، الدرهم الإماراتي)، ومن المخزي أن هذه الفئة تعيش خارج البلاد، بينما فئة الإدارة الوسطى والأدنى، ومعها عامة الناس، تكتوي بنار التضخم والغلاء والفقر والمعاناة.

- العجز التام عن حشد التمويل للمشاريع التنموية من الجهات المانحة (الإقليمية والدولية)، وعدم القدرة على تهيئة الظروف الملائمة للاستثمارات المحلية والخارجية، بل ساهمت السلطة في التضييق على المستثمر الوطني، ما دفعه إلى الهروب برأسماله واستثماره في الدول المجاورة. فخلال النصف الأول من العام الجاري، 2024، منحت السعودية نحو 600 ترخيص لمستثمرين يمنيين في المملكة، وفي هذا تشترك كل من سلطتي عدن وصنعاء في تحمل وزر إيجاد بيئة طاردة للمستثمر الوطني.

على الجانب الآخر، ابتدعت سلطة صنعاء أساليبها الخاصة في إدارة الموارد السيادية، فقد تفننت في تنويع مصادر الجبايات المجحفة من الضرائب والجمارك والزكاة والأوقاف والرسوم الأخرى، وأعفت نفسها من أية التزامات تجاه مرتبات الموظفين أو الإنفاق على المشروعات التنموية، ما يجعل السلطة مساهمة في تجميد النشاط الاقتصادي والتنموي.

كذلك تفتّق إبداع السلطة في إصدار قانون منع التعاملات الربوية ليقضي على القطاع المصرفي، ويرمي البنوك التجارية والإسلامية والتمويل الأصغر في أتون الإعسار المالي والإفلاس، ويحرم مئات آلاف المودعين الاستفادة من ودائعهم وعوائدها، والدفع بهم إلى براثن الفقر والفاقة، إضافة إلى عجز تلك البنوك عن تمويل التجارة الخارجية، ما يعني الانغلاق عن العالم الخارجي، ويصبح مصير البنوك في المجهول.

في جانب السياسة النقدية، تمكنت سلطة صنعاء من تحقيق الاستقرار النسبي لسعر الصرف، لكنها أخفقت في المحافظة على استقرار التضخم، فأسعار السلع والخدمات تتزايد باستمرار، وأثقلت كاهل المواطنين محدودي الدخل.

كذلك تتبع سلطة صنعاء سياسة ممنهجة لتضييق الخناق على القطاع الخاص من خلال الجبايات والإتاوات المتنوعة والمتكررة، وإغلاق نوافذ التمويل للمشاريع الاستثمارية من القطاع المصرفي الذي أصبح في حالة موت سريري، إضافة إلى عرقلة أنشطة وأعمال المنظمات الدولية العاملة في مجال الدعم الإنساني والإغاثي، وقطع جسور التواصل مع الجهات والمؤسسات المانحة الإقليمية والدولية إلى درجة إلغاء الوزارة المعنية بالتعاون الدولي من هيكل الحكومة.

إن حالة العبث الاقتصادي الممارس من سلطتي عدن وصنعاء تقود إلى الاستنتاجات الآتية:

- إن كلتا السلطتين تدير الموارد السيادية للبلاد بطريقة غير مسؤولة بعيداً عن الشفافية والمساءلة، وهذا يعني اتساع دائرة الفساد المالي والإداري، خصوصاً أن السلطتين كلتيهما ليست لهما ميزانية عامة معلومة وموافق عليها من السلطة التشريعية، وكل هذا يؤكد حجم العبث والفوضى في إدارة الشأن الاقتصادي في مناطق عدن وصنعاء.

- تتحمل السلطتان في عدن وصنعاء مسؤولية عدم الوصول إلى اتفاق سياسي ينهي الحرب. وللأسف، فقد ألفتا إدارة البلاد في ظل اللاحرب واللاسلم لتعظيم مكاسبهما الشخصية بعيداً عن المساءلة والمحاسبة، وغير عابئتين بهموم الناس وظروف عيشهم القاسية.

- إن كل المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالتضخم وتدهور القوة الشرائية للعملة الوطنية والبطالة والفقر تدل على أن الأوضاع تتجه نحو المجهول، وأن السلطتين كلتيهما فقدتا الشرعية السياسية والشرعية الاقتصادية.

- إن كلتا السلطتين تتحمل مسؤولية عزل اليمن ووضعه خارج مسار العلاقات والتعاون مع المحيط الإقليمي والدولي، وما يدل على ذلك عزوف الجهات المانحة عن تقديم الدعم الإنساني والتنموي لمعالجة الأزمة الحادة التي تعيشها البلاد لأكثر من عقد من الزمن.

- إن السلطتين كلتيهما أخفقتا في تلبية توقعات الناس في كل مناطق اليمن حول الرغبة بالسلام والاستقرار، وتجاوز مرحلة الحرب وتداعياتها الكارثية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

إن كلتا السلطتين فشلتا فشلاً ذريعاً في توفير بيئة حاضنة للاستثمار الوطني والأجنبي، ما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية، وعدم القدرة على توليد فرص العمل للشباب، الذين أصبحوا ينشدون الهجرة إلى الخارج ويواجهون الويلات في سبيل بحثهم عن فرص العيش الكريم.

المساهمون