يوم الثامن والعشرين من شهر يونيو/ حزيران من العام 1914 قام شاب صربي من المتحمسين لمملكة صربيا بقتل آرشدوق (ولي عهد) إمبراطورية النمسا/ المجر في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك اليوم، وأرداه قتيلاً، فردت الإمبراطورية النمساوية - المجرية بإعلان الحرب على صربيا. ولحقت بهم السلطنة العثمانية ضد الحلفاء أملاً في التخلص من مطامع الأوروبيين في أراضيها. وبعدها دخلت الدول الأوروبية بخاصة المملكة المتحدة وفرنسا وغيرهما في الحرب والتي استمرت حتى عام 2018، علماً أن آخر المعارك كانت عام 2021.
يوم الفاتح من شهر سبتمبر/ أيلول من العام 1939، قامت قوات ألمانيا النازية بغزو بولندا. وكان الحدث سريعاً حاسماً أهاج مخاوف المملكة المتحدة وفرنسا فأعلنتا الحرب على ألمانيا. أما اليابان التي كانت قد احتلت منشوريا الصينية عام 1931 فأنهت ذلك في شهر فبراير/ شباط 1932 وشكلت حكومة تابعة لها سمتها "منشوريا". ودخلت اليابان الحرب العالمية الثانية بتاريخ 22 سبتمبر 1940 بعد أن غزت إندونيسيا، ومن بعدها الملايو ومناطق أخرى.
أما روسيا فقد دخلت الحرب العالمية الثانية يوم 17 سبتمبر 1939 حين غزت قواتها شرقي بولندا واحتلتها مما وضعها في مواجهة صريحة مع ألمانيا الهتلرية.
أما الولايات المتحدة، فقد حال الكونغرس الأميركي دون تمكين الرئيس القوي فرانكلين روزفلت من دخول الحرب إلى أن وفر اليابانيون له تلك الفرصة بعد سنتين من بدء الحرب. فقد قام سلاح الجو الياباني بضرب القوات البحرية الأميركية الرأسية في ميناء " بيرل هاربر" يوم السابع من شهر سبتمبر عام 1941 كضربة استباقية لمنع القوات الأميركية الراسية في المحيط الهادئ من ضرب القوات اليابانية في منشوريا أو إندونيسيا أو الملايو أو كوريا. ولكن حساب السرايا الياباني لم يتفق مع حساب البيت الأبيض الأميركي، حيث قام روزفلت باستثمار الحدث وإثارة المشاعر الوطنية الأميركية ضد اليابان واليابانيين، فدخل الحرب بعدها إلى جانب الحلفاء.
أما الدول المُستَعْمَرَة (المستعمرات) ومجموعة دول الكومنولث فقد دخلت الحروب مقدمة الجنود. فالجمهورية التركية قدمت الجنود نصرة للحلفاء الغربيين ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان، وروسيا البلشفية التي حرمتها الثورة البلشفية عام 1917 من الاستمرار في الحرب، ومنعتها من الاستفادة من الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، منحتها الحرب العالمية الثانية فرصة نشر الفكر الماركسي الشيوعي وتوسيع نفوذها في شرق أوروبا ووسط آسيا وبحر البلطيق.
إذاً، تركيا وروسيا اللتان وقفتا إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، غيرتا موقفهما في الحرب العالمية الثانية ووقفتا في معسكر الحلفاء. أما الولايات المتحدة التي شاركت رمزياً أيام الرئيس توماس وودرو ويلسون في الحرب العالمية الأولى، دفع رئيسها لإنشاء عصبة الأمم ومقرها جنيف لتصبح السلف للأمم المتحدة التي أنشئت إبان الحرب العالمية الثانية؛ أو بالأحرى في نهاياتها. والطريف في الأمر أن الرئيس ويلسون المحرك لفكرة إنشاء عصبة الأمم ( The League of Nations) لم يتمكن من الانضمام إليها بسبب سيطرة النواب والشيوخ الانعزاليين في الكونغرس الأميركي، والذين صوتوا ضد الانضمام.
لم تحسم الحرب العالمية الأولى الأمور. لكنها انتهت ببروز نوعين من الأفكار في العالم. الأول هو أنها قوت شوكة الإنكليز والفرنسيين في منطقتنا العربية. وقامت هاتان الدولتان باستعمار دول في أفريقيا ومنطقتنا العربية، وعززتا نفوذهما في الدول التي كانت قد وقعت تحت سيطرتهما في شمال أفريقيا مثل مصر والسودان للإنكليز، والجزائر وتونس لفرنسا.
وخلال الفترة ما بين نهاية الحرب الأولى وبدء الثانية بدأ العمل الجاد على تقوية قبضة بريطانيا على منطقة الخليج بخاصة أنّ النفط كان قد اكتشف في عبدان بإيران منذ عام 1909. وقد ألزمت المملكة المتحدة الدول الخليجية العربية الست بتوقيع اتفاقيات ثنائية بين الأعوام 1913-1916 تمنع فيها هذه الدول من تبادل الزيارات أو تبادل الأراضي مع أي جهة كانت إلّا بموافقة المندوب السامي البريطاني. أما في الولايات المتحدة، فقد أنشئت دائرة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا (المنطقة العربية) بوزارة الخارجية الأميركية عام 1909، أي عام اكتشاف النفط في المنطقة.
والحدث الثاني بالطبع هو إصدار وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور رسالة إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، رئيس أكبر وأشهر عائلة يهودية يخبره فيها عن قرار حكومة بلاده بإقامة وطن لليهود في فلسطين. وقد حدث هذا يوم الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917، في الوقت الذي كانت الجيوش العربية تقاتل إلى جانب بريطانيا وحلفائها ضد الألمان في الحرب العالمية الأولى.
أما الحرب العالمية الثانية، فقد نجم عنها تغير في ميزان القوى الدولي، وبدأت المملكة المتحدة وفرنسا خاصة في خسارة مستعمراتها في الهند، والهند الصينية، وشمال افريقيا ودول المشرق العربي. وخرج الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور بنظرية الفراغ الذي يجب أن تملأه الولايات المتحدة، ومن أجل مواجهة القوة الأساسية المناوئة لها على الجانب الآخر مصالح وعقيدةً وهي الاتحاد السوفييتي الماركسي اللينيني.
وقد بدأ الصراع بين القوتين العظميين في كوريا، التي انتهت بعد حرب طاحنة إلى تقسيم كوريا إلى بلدين شمالي وجنوبي. أما في المشرق العربي فقد سعى الإنكليز إلى تعزيز دورهم بخلق حلف بغداد، لكنّ الأميركان عارضوهم. وسعت حكومة أنتوني إيدن وحكومة منديز فرانس في فرنسا بالتعاون مع إسرائيل لغزو منطقة قناة السويس في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1956 بعد تأميم شركة القناة من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر. ووقعت حرب واحتلال إلى أن قام الروس والأميركان بإصدار إنذارات للدول الغازية فانسحبت من منطقة القناة بينما بقيت إسرائيل محتلة لقطاع غزة لعدة أشهر دفعت المقاومة هناك للاشتباك مع القوات المحتلة، ونشأت بعد ذلك حركة فتح كجزء من المقاومة الإسلامية هناك.
اليوم نرى حرباً تستعر في أوكرانيا يقف فيها الأميركان والأوروبيون ضد روسيا، بينما الصين وتركيا تأخذان موقف المحايد الأكثر ميلا إلى تأييد الروس معنوياً، بينما تقف اليابان أقرب إلى أميركا وأوروبا. فهل ستكون أوكرانيا هي سراييفو من حيث إنها ستكون المسرح الذي تنطلق منه شرارة حرب عالمية جديدة؟
الوطن العربي باستثناء منطقة الخليج يعاني من مشاكل عميقة. فالسودان وليبيا والصومال في أفريقيا، وسورية واليمن والعراق في آسيا ما تزال في وضع داخلي قلق جداً. وإسرائيل تعاني من انقسامات داخلية لا يحلها إلا حرب ضد العرب لتؤجل تلك الانقسامات في الوقت الذي تدار به إسرائيل من واحدة من أسوأ حكومات العالم عنصرية وجهلاً وتعصباً دينياً قبيحاً. ودول الخليج على هدوئها وارتفاع وتيرة التنمية فيها تعاني من خلافات فيما بينها ولكنها نجحت إلى حد ما أن تبقيها تحت السطح.
أما الأردن فهو يتألم من تحديات الفقر والبطالة واللجوء ونقص المساعدات والتوتر العنيف على حدوده، وارتباطه بمجريات القضية الفلسطينية سياسياً وديمغرافياً وجغرافياً واقتصادياً يفرض عليه مواقف صعبة. والأنكى من ذلك أن الغموض يلف المنطقة كلها. إنها حقاً ظروف خارقة للعادة في ضبابيتها والسعي لاستجلاء احتمالات المستقبل أمر يعجز عنه الفلكيون المتنبئون وأصحاب المراكز الراصدة للمستقبل.
والصين والولايات يشنان على بعضهما حروباً تكنولوجية وتجارية وفضائية وحرب عملات. والعالم كله يعاني اقتصادياً حتى إن كبار الاقتصاديين باتوا يرون أن الوصول إلى اتفاق أمر مستحيل، وأن مجريات العالم تسير إلى نقطة "الانفجار الكبير". وهل -لا سمح الله- لو وقع المحظور، فكم من البشر سيبقى على هذه الأرض المنكودة؟
قد تستمر الحروب الإقليمية مستعرة، وحروب الإنابة قائمة، وقد تسفر عن انتقال الثقل الدولي من المحيط الأطلسي البارد والمحيط المتجمد الشمالي الأبرد إلى المحيطين الهادئ والهندي، ويقع العالم تحت براثن جديدة.
دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية تعلمنا أنّ العالم قد يجن إلى درجة كبيرة.