قبل أن يجف حبر الاتفاقات التركية المصرية خلال زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى القاهرة، بعد قطيعة لعشر سنوات، استضافت إسطنبول منتدى الاستثمار التركي السعودي ليزيد ملامح التعاون ويؤسس لاستثمارات جديدة بقطاعات النقل والبنية التحتية والسياحة، لتبقى لأبوظبي الحصة الكبرى بالتعاون والاستثمار بعد استحواذها على 99% من مصرف "دينيز بنك" و44% من أسهم شركة "MNG" التركية للشحن التجاري.
فهل الاستدارة من جديد نحو المنطقة العربية تصب في ما يسمى "صفر مشاكل" التي عادت تركيا إليها بعد سنوات؟ أم ارتفاع الأسوار الأوروبية بوجه أنقرة دفعها للشرق والمنطقة العربية؟ خاصة أن الأخيرة تشهد فورة مالية بالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، في ظل زيادة الأزمات الاقتصادية بتركيا؟
يرى المحلل التركي سمير صالحة أن العلاقات التركية العربية لم تتوقف يوماً، فرغم التوترات السياسية خلال العقد الماضي، ومع مصر خاصة، استمرت العلاقات الاقتصادية والاستثمارات والتبادلات التجارية، مشيراً إلى أن العلاقة التركية مع قطر كانت الأهم والأكثر تطوراً بواقع استمرار عقد اللجنة العليا المشتركة التي وصلت للتعاون الاستراتيجي بجميع القطاعات، فضلاً عن التعاون الاقتصادي الذي زاد العام الماضي بنحو 18% والآمال بوصول حجم التبادل إلى 5 مليارات دولار.
وحول أسباب ما يصفه المراقبون بالاستدارة وطي تركيا صفحة الخلافات، يضيف صالحة، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أن ما تسعى إليه تركيا ليس "صفر مشاكل" فقط، لأن استعادة العلاقات وتطويرها مرتبط بالتغيرات الإقليمية والدولية، وهناك نقاط التقاء ومصالح متبادلة بين تركيا ودول المنطقة العربية أكثر من أي منطقة أخرى.
الصراع على الطاقة
ويلفت إلى أن ما يشاع بالأعوام الأخيرة من ربط العالم عبر ممرات "طريق الحرير الصيني، الهندي التجاري، الممر العراقي وممر البلقان والقوقاز" تزيد من تسريع تركيا علاقاتها مع دول المنطقة والدول العربية، وإلا سيتم حصارها وربما عزلها، لذا رأينا استراتيجية جديدة تتعلق بتحسين العلاقات حتى مع أرمينيا وإسرائيل قبل حربها الإبادية على غزة بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
ولا تفوت صالحة الإشارة إلى الصراع على الطاقة، خاصة بمنطقة المتوسط وملامح إقصاء تركيا خلال تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط الذي تأسس بمصر عام 2019، فتركيا التي تسعى للاستقلال الطاقوي، بعد الاكتشافات النفطية والغازية في البحرين المتوسط والأسود، لا بد لها من التوجه نحو دول المنطقة ومنها مصر.
وبدأت نتائج زيارة الرئيس التركي إلى مصر تتجلى واقعاً، فبعد تلبية دعوة نظيره عبد الفتاح السيسي وزيارة القاهرة في 14 فبراير/ شباط الجاري والوعود بوصول حجم التبادل إلى 15 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، أعلنت شركة "بوتاش" المملوكة للدولة التركية أن مسؤوليها أجروا محادثات مع نظرائهم لدى الشركة المصرية للبدء باستغلال الفرص التجارية المتعلقة بالغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال والتعاون في البنية التحتية للغاز الطبيعي والتخزين تحت الأرض.
بدوره، يرى المحلل التركي يوسف كاتب أوغلو، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن مبدأ العلاقات اليوم ينطلق من تنحية كل الملفات الشائكة، "مع التركيز على مبدأ الجميع رابح، لذا رأينا سرعة الزيارات التركية للسعودية والإمارات ومصر ولعب دور الوسيط بأكثر من ملف إقليمي ودولي".
ويشير المحلل التركي إلى أن المنطق والعقل والمصالح تؤكد على قدر تركيا والمنطقة العربية المشترك، لذا لم تقطع أنقرة برأيه جميع خيوط التواصل، بل ورغم محاولات تكريس الخلاف بين مصر وتركيا على سبيل المثال، عبر منتدى شرق المتوسط بدورتيه الأولى والثانية عامي 2020 و2021، آثرت تركيا التواصل وتعزيز التجارة والاستثمارات مع مصر وإبقاء قنوات الحوار مفتوحة.
نمو العلاقات التركية العربية
وتشير مصادر تركية إلى تعاظم الاستثمارات الإماراتية بعد صفقة استحواذ بنك الإمارات دبي الوطني على كامل حصة بنك "سبير الروسي" في "دنيز بنك" والتي تبلغ 99.85% مقابل 3.2 مليارات دولار، وأعلنت شركة "غذاء القابضة" قبل ايام إبرامها صفقة للاستحواذ على حصة 44 بالمئة من شركة طيران MNG التركية المتخصصة في مجال الشحن التجاري مقابل 211.2 مليون دولار.
وتسارعت العلاقات التركية الإماراتية خلال العامين الأخيرين لتدخل أبوظبي ضمن قائمة أكثر 10 دول استثمارا في تركيا، بحسب تصريح سابق لرئيس مكتب الاستثمار بالرئاسة التركية براق داغلي أوغلو، الذي أشار إلى أن هناك نحو 600 شركة برأس مال إماراتي تعمل في تركيا و400 شركة برأس مال تركي تعمل في الإمارات، في قطاعات البناء والسياحة والدفاع وقطاعات أخرى.
ويبقى لتطوير العلاقات التركية السعودية أهمية متزايدة بعد ما شابها من توتر وقطيعة برأي المحلل محمد حاج بكري، لأن المملكة ثقل اقتصادي ولها دور فاعل وكبير بالمنطقة، خاصة بعد التوجه والانفتاح واستراتيجية 2030.
ويشير الدكتور حاج بكري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن زيارة الرئيس التركي إلى جدة في أغسطس/ آب العام الماضي، مثلت بداية جولته الخليجية والتأكيد على تفعيل مجلس التنسيق السعودي التركي، والعمل على تطوير مشاريع ومبادرات مشتركة وتنفيذها في إطار المجلس، تعد بداية انطلاقة للعلاقات بين البلدين.
ويلفت المحلل حاج بكري إلى أن التعاون مع السعودية لا يقتصر على السياحة والتبادل التجاري، بل وقع الجانبان سابقاً على برنامج الخطة التنفيذية للتعاون في مجالات القدرات والصناعات الدفاعية والأبحاث والتطوير، والتوقيع على عقدي استحواذ بين وزارة الدفاع وشركة (بايكار) التركية، ومذكرات تفاهم للتعاون في مجالات الاستثمار المباشر والطاقة.
واستضافت إسطنبول، أول من أمس، أعمال منتدى الاستثمار التركي السعودي واجتماع مجلس الأعمال السعودي التركي. وتمخض عن المنتدى توقيع 28 مذكرة تفاهم في مجالات رأس المال البشري والابتكار والسياحة وجودة الحياة والبناء والعقارات والتصنيع والصناعة والضيافة.. إضافة إلى قرض تنموي ميسّر لتركيا بقيمة 55 مليون دولار لقطاع التعليم.
بدروه، يرى المحلل والأكاديمي التركي المتخصص بالعلاقات مع الشرق الأوسط وهبي بايصان أن ما نشهده أخيراً ليس استدارة تركية، بل هي ثمار إعادة تعزيز العلاقات الممتدة لمحاولات عمرها خمس سنوات، بدأتها تركيا من منطلق الحرص على العلاقات وزيادة التعاون والتبادل، ولاقت قبولاً وترحيباً عربياً.
تحالفات واسعة
ويضيف الأكاديمي بجامعة ابن خلدون، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى مصر تنطلق من ذلك الحرص وحاجة دول المنطقة بعضها لبعض بعيداً عن المشاكل الخلافية، لأن المخاطر المحيقة تشمل دول المنطقة جميعها، كما أن العلاقات الاقتصادية والتكامل عاملان إضافيان بواقع الأزمات التي تعيشها الدول، سواء بنسب النمو أو التضخم وتراجع سعر صرف العملات، متوقعاً أن حجم التبادل التجاري بين بلاده والدول العربية يبلغ نحو 70 مليار دولار وهو أعلى من أي تبادل تركي مع تكتل عالمي.
وبحسب بيانات مجلس المصدرين الأتراك، نمت الصادرات التركية إلى المنطقة العربية بنسبة 17.8% خلال عام 2022، لتبلغ قيمتها نحو 34.2 مليار دولار، قبل أن تتزايد بعد تحسن العلاقات خلال عام 2023.
وكانت إسطنبول قد استضافت في العاشر من شباط الجاري أعمال الدورة الأولى للجنة المشتركة القطرية التركية للتعاون الاقتصادي والتجاري برئاسة الشيخ محمد بن حمد بن قاسم آل ثاني، وزير التجارة والصناعة القطري، والدكتور عمر بولات وزير التجارة التركي.
ويتنامى حجم التبادل التجاري بين تركيا وقطر بعدما قفز بنسبة 16.7 بالمئة وذلك من 1.8 مليار دولار في العام 2021 إلى ما يزيد عن 2.3 مليار دولار في العام 2022 وطموح البلدين لوصوله إلى 5 مليارات دولار بواقع زيادة التبادل والاستثمارات المشتركة بعدما وصل عدد الشركات التركية في قطر إلى 727 شركة ونافت استثمارات الشركات القطرية عن 10 مليارات دولار في تركيا.