لم تمض سوى 24 ساعة على تسلّم ليز تراس منصبها الجديد كرئيسة للحكومة البريطانية، حتى لاحت في الأفق بوادر توتّر بين ويستمينستر وبنك إنكلترا المركزي. تاريخياً، لا يعدّ هذا التوتّر بين "القيادتين" غريباً تماماً عن المملكة المتحدة. إلا أن الأزمة الاقتصادية الحالية تجعل الخلافات أكثر وضوحاً، والأسوأ أنها تجعلها أكثر خطورة على الحياة اليومية لملايين الأشخاص الذين يتخوفون من تفاقم الأوضاع.
يقول مصدر من البنك المركزي لـ"العربي الجديد" إن "هذا المسار التصادمي بين حكومة تراس وبنك إنكلترا كان متوقّعاً منذ اللحظة التي تعهّدت فيها خلال حملتها الانتخابية بتخفيض الضرائب أولاً"، فمن شأن هذا التخفيض والدعم السخي في الطاقة "أن يجبر بنك إنكلترا على رفع أسعار الفائدة بشكل أسرع لإبقاء التضخّم تحت السيطرة".
ويرى المصدر أن خطة منافسها ريشي سوناك في مواجهة التضخم أولاً ثم الالتفات إلى تخفيض الضرائب وتوزيع "الهبات" كانت أكثر واقعية. ومن المتوقع أن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة مرة أخرى، الأسبوع المقبل، بنسبة 0.5 في المائة إضافية.
وليست التهديدات التي تواجهها المملكة المتحدة خطابية ولا خيالية، كما أن أزمة تكلفة المعيشة ليست مؤقتة، بحسب بنك إنكلترا، وعلى الحكومة البريطانية الجديدة أن تتعامل معها على المدى الطويل من خلال حلول فعّالة ومستدامة. وفي حين تحدّثت تراس عن أولويات ثلاث تتلخّص في تخفيض الضرائب وتجميد أسعار الطاقة ودفع عجلة الاقتصاد من خلال تشجيع الاستثمار، إلا أن شكوكاً حقيقية يملكها البنك المركزي حول قدرة هذه الخطوات على مواجهة الأزمة وعدم تكريسها.
هذا بالإضافة إلى مخاطر فقدان الأسواق للثقة في الاقتصاد البريطاني، مما سيعيق جلب الاستثمار الذي وضعته تراس على سلم أولوياتها.
صدمة الأسعار
وعن صدمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة التي شعر بها البريطانيون أكثر بكثير من جيرانهم الأوروبيين، في حين وصل التضخم في بلدهم إلى أعلى نسبة بين البلدان الغنية الكبرى، يتابع المصدر من المركزي أن الأرقام في بريطانيا تبدو أعلى لأنها مفاجئة ولم ترتفع تدريجياً كما هو الحال في أوروبا. كما أن الحكومات الأوروبية في فرنسا مثلاً وإسبانيا وألمانيا تعاملت بشكل مختلف مع تداعيات الغزو الروسي على أوكرانيا.
يضاف إلى ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق والتورّط في خلاف دائم مع أكبر شريك تجاري لها. ووجد استطلاع للرأي لشركتي "يوغوف" و"داتابراكسيز" أن معظم الناخبين على مستوى العالم يعتبرون غلاء المعيشة أكثر أهمية بكثير من تحرير أوكرانيا من الاحتلال الروسي.
حتى في المملكة المتحدة التي تتمتع بأقوى دعم لأوكرانيا، يضع الناخبون تكلفة المعيشة والمناخ فوق تحرير أوكرانيا. ولا يحمل الاستطلاع الأخير هذا مفاجآت خاصة في بريطانيا التي يعيش الملايين فيها حالة هلع في انتظار الشتاء، حيث حدّد مكتب أسواق الغاز والكهرباء "Ofgem" الحد الأقصى للسعر الجديد بـ3549 جنيهاً استرلينياً اعتباراً من شهر أكتوبر/تشرين الأول، أي ثلاثة أضعاف ما كان عليه الشتاء الماضي.
واقع يجعل أكثر من 25 في المائة من البريطانيين عاجزين عن تغطية فواتير الطاقة، وبالتالي عن تدفئة منازلهم. حتى مع تعهد تراس، الخميس، بتجميد الحدّ الأقصى للطاقة عند مبلغ 2500 جنيه استرليني للأسرة النموذجية سنوياً بعد أن كان 1971 جنيهاً، إلا أن أزمة غلاء المعيشة التي يشعر بها الملايين لن تهدأ في وقت قريب.
ولم تلقِ الأزمة المعيشية بظلالها على المواطنين فقط، بل أيضاً على تجّار التجزئة، في محاولة للتكيّف مع هذه الأوقات العصيبة. تشير بيانات مبيعات التجزئة إلى أن المستهلكين قلّصوا مشترياتهم وتحوّلوا إلى منتجات أخرى تحمل علامات تجارية أرخص، ما دفع على سبيل المثال سلسلة "بوتز" الشهيرة المختصة في بيع الأدوية والمكمّلات الغذائية ومستحضرات النظافة الشخصية والتجميل، إلى تجميد أسعار أكثر من 1500 منتج حتى نهاية العام.
كما أطلقت علامة تجارية جديدة لا تتجاوز أسعار منتجاتها جنيهاً استرلينياً واحداً، بما فيها الشامبو ومعجون الأسنان والفوط الصحية للنساء، لتضمن حصول أكبر عدد ممكن من المستهلكين على أدوات النظافة الشخصية. كذا أطلقت سلسلة متاجر أخرى مثل "آسدا" و"تيسكو" و"سانسبيريز" وغيرها علامات تجارية جديدة للأطعمة، تحت شعار "الأساسيات فقط"، تضمّ الفواكه والخضراوات الطازجة والوجبات الجاهزة والحلويات، لمساعدة المتسوقين الذين يواجهون ضغوطاً على الموارد المالية.
أزمة استهلاك
وتشير بيانات "آسدا" إلى أن واحدا من كل ثلاثة متسوقين يشتري هذا الملصق بانتظام. في حين تشير بيانات التجزئة إلى أن الأسر البريطانية كانت خلال الشهرين الماضيين أسوأ حالاً مما كانت عليه في الفترة نفسها من العام الماضي. فبعد دفع الفواتير الأساسية والضرائب، لا يتبقى لدى الأسرة النموذجية سوى 200 جنيه إسترليني في الأسبوع. بعض المتاجر بدأ منذ الشهر الفائت بتوزيع طعام مجاني للأطفال تحت سن 16 عاماً، عندما تنفق العائلة 5 جنيهات إسترلينية كحد أدنى من المشتريات.
وتقول سامنثا، العاملة في متجر "تيسكو"، لـ"العربي الجديد"، إن المنتجات التي كانت تحمل في السابق علامة صفراء تشير إلى نهاية صلاحيتها في اليوم نفسه (الفواكه والخضار) وبالتالي تُباع بسعر أرخص من غيرها، لم تكن لها شعبية كبيرة في متجرهم. إلا أن المتسوّقين يقبلون أكثر فأكثر على هذه المنتجات، وبعضهم يأخذ منها أكثر من حاجته اليومية لتخزينها لليوم التالي، برغم انتهاء صلاحيتها. كما تشير سامنثا إلى أن الشريحة الأضعف هي التي كانت تستفيد في السابق من هذه العلامة الصفراء، بينما يرغبها اليوم معظم المتسوّقين، الفقراء منهم ومتوسّطو الدخل.
ويُظهر "مكتب الإحصائيات الوطنية" أن حوالي 24 مليون شخص في بريطانيا حدّدوا استخدامهم للطاقة في منازلهم بين مارس/آذار ويونيو/حزيران من العام الجاري. إلا أن تقليل حجم استهلاك الطاقة خلال الأشهر هذه تحديداً يعدّ أمراً معقولاً، نظراً لأن الشمس لا تغيب حتى الساعة السابعة في نهاية مارس والعاشرة في نهاية يونيو، إضافة إلى عدم الحاجة لتدفئة المنازل بانتظام معظم شهري مارس وإبريل. بينما خفّض حوالي 16 مليون شخص، بحسب المكتب ذاته، إنفاقهم على الغذاء والضروريات.
وتبدو الأرقام مرعبة أكثر فيما يتعلق بالشرائح التي تعبّر عن إرهاق كبير في تحمّل تكاليف العيش. إذ تشير أرقام المكتب إلى أن 9 من كل 10 بالغين في المملكة المتحدة، أي 89 بالمائة، يشتكون من ضغط الأسعار. ما يرفع النسبة من 32 مليوناً يشتكون من الأسعار في نوفمبر 2021 إلى 46 مليوناً في يونيو من هذا العام. وعن كيفية "التأقلم" مع جنون تكلفة المعيشة، قال 26 مليون شخص إنهم ينفقون أموالاً أقل على الأساسيات كالغذاء والمكمّلات الغذائية والملابس وغيرها، بينما قلّل حوالي 24 مليون شخص استهلاكهم للغاز والكهرباء، في حين أن 19 مليون شخص قلّصوا استخدامهم لسياراتهم.
وبحسب محللي "جي بي مورغان"، فإن أزمة المعيشة قد بدأت للتو، ولن تجدي خطة تراس لتجميد الحد الأقصى لأسعار الطاقة نفعاً، إذ سيستمر خفض الإنفاق بنسبة 10 في المائة. ويتفق "جي بي مورغان" مع بنك إنكلترا في أن خطة الحكومة الجديدة ستؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة بشكل أسرع، وبالتالي ستؤجل مخاطر الركود لبعض الوقت بدلاً من إلغائها.
هذا الضغط الهائل الذي يثقل الحياة اليومية في بريطانيا لا يقتصر على البريطانيين والمقيمين، بل أيضاً على اللاجئين الأوكرانيين الذين فرّوا من الحرب و"احتضنتهم" الحكومة البريطانية ضمن خطة "بيوت من أجل أوكرانيا"، والتي تدعم العائلات البريطانية بمبلغ شهري قدره 350 جنيهاً استرلينياً، على أن يستضيفوا لاجئاً في بيتهم لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد.
تأثير على اللاجئين
وعبّرت معظم العائلات عن عدم قدرتها على تجديد هذه الإقامة اعتباراً من نهاية شهر سبتمبر، بسبب غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الطاقة، ما دفع وزير اللاجئين ريتشارد هارينغتون، والذي استقال قبل يومين، إلى مطالبة الحكومة بمضاعفة المبلغ الشهري ليصبح 700 جنيه إسترليني، خشية أن يتعرض أكثر من 120 ألف لاجئ أوكراني لخطر التشرّد.
وتنطبق الآثار المدمّرة لتكلفة المعيشة على قطاع المطاعم والمقاهي أيضاً، وسط تحذيرات الاقتصاديين من أن الأزمة ستجبر الكثير منها على الإغلاق إلى أجل غير مسمّى، بسبب عدم القدرة على تحمّل أسعار الطاقة، إضافة إلى تراجع القدرة الشرائية بشكل كبير، وارتفاع أسعار المواد الغذائية. ومنذ الآن، يشكو الكثير من أصحاب المطاعم والحانات من تراجع هائل في أرباحهم، لاسيما المطاعم المختصة بالطبق "الوطني" الشهير "فيش أند شيبس" الذي يعتمد عليه ملايين البريطانيين في وجباتهم السريعة؛ حيث شهدت أسعار الأسماك المعتمدة لإعداد هذا الطبق ارتفاعاً خيالياً.
وما زاد الطين بلة هو الطقس المتطرّف الذي شهدته المملكة المتحدة خلال الشهرين الماضيين وأجزاء كبيرة من دول أوروبا، ما انعكس سلباً على محاصيل أساسية بسبب الجفاف كالبطاطس وغيرها. يخشى الاقتصاديون من أن تجتمع هذا الشتاء عوامل كثيرة، أبرزها عجز الحكومة عن انتهاج خطط مستدامة وانهيار القطاع الصحي وارتفاع أسعار الطاقة، مما سيؤدي إلى عناوين عريضة لم تشهدها صحافة المملكة المتحدة في تاريخها الحديث، مثل "الموت برداً وجوعاً على أعتاب مستشفيات مكتظة".