ثارت مخاوف شديدة من هروب الأموال من أوروبا مع رفع الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" سعر الفائدة على الدولار وزيادة العوائد على السندات الأميركية، وفقدان أدوات الدين الأوروبية جاذبيتها مع تردد البنك المركزي الأوروبي في رفع سعر الفائدة على اليورو رغم زيادة معدل التضخم.
تدعم المخاوف الأوروبية المخاطر الاستثمارية العالية التي تواجه دول القارة، خاصة الواقعة في الجنوب من زيادة الديون، وتراجع سعر اليورو مقابل الدولار.
يدخل الغزو الروسي لأوكرانيا أوروبا في أكبر اختبار في تاريخها منذ إنشاء الكتلة في عام 1957 في بروكسل ببلجيكا، إذ بينما كانت دول الاتحاد الأوروبي تخطط للتوسع الاقتصادي والنمو السريع بعد خروجها من جائحة كورونا في بداية العام الجاري فوجئت بالحرب الروسية لاحتلال أوكرانيا التي تهدد سيادة بعض دولها، خاصة جمهوريات الإمبراطورية السابقة التي تحولت إلى دول وانضمت للاتحاد الأوروبي.
فالحرب وضعت عقبات مالية كؤود أمام أوروبا وأمام العملة الأوروبية الواحدة التي تتبناها 19 دولة من بين دول الاتحاد الأوروبي تحت مسمى "منطقة اليورو"، حيث تراجعت قيمة صرف اليورو إلى قرابة دولار واحد، ما وضع دول منطقة اليورو الضعيفة وتحديداً دول الجنوب الأوروبي في مأزق وجود تمويلات للإنفاق بالميزانية وكذلك تسوية أقساط القروض الدولارية.
وتتزامن أزمة العملة الأوروبية مع المخاطر الجيوسياسية التي تدفع المستثمرين الأجانب للهروب من سنداتها، وبالتالي باتت غير قادرة على تمويل الإنفاق عبر إصدار سندات دين جديدة.
أمام هذه التحديات يرى معهد بروغيل للدراسات في بروكسل أن منطقة اليورو سوف تخاطر عبر رفع الفائدة بالدخول في أزمة سيولة في سوق الديون السيادية التي تفاقمت بعد الحرب الروسية.
وتعود مخاطر أزمة السيولة، وحسب معهد بروغيل، بدرجة رئيسية، إلى الفارق الكبير في العائد على السندات بين ألمانيا وبعض الدول بمنطقة اليورو، خاصة دول الجنوب الأوروبي التي يهرب منها المستثمرون الذين يطالبون بمعدل عائد مرتفع على سنداتها يغطي المخاطر الاستثمارية.
وحسب بيانات سوق السندات الأوروبي، فقد ارتفع الفارق في العائد على السندات الألمانية وسندات بعض الدول إلى أكثر من 2%. والعائد على السندات الألمانية هو المقياس الاستثماري الذي يعتمده المستثمرون لمخاطر شراء ديون دول منطقة الأخرى.
وتشير البيانات المنشورة في الأسبوع الماضي إلى أن الفارق في العائد بين السندات الألمانية ونظيرتها الإيطالية ارتفع إلى نحو 2.1%، وبين السندات الألمانية وكل من سندات اليونان وإسبانيا إلى نسبة 2.55% و1.15% على التوالي، وبين السندات الألمانية وسندات البرتغال إلى نسبة 1.2%.
وهذا الفارق الكبير في العائد يجعل البنك المركزي الأوروبي الذي يخطط لرفع سعر الفائدة لمكافحة التضخم أمام عقبة التعامل مع منطقة اقتصادية ومالية واحدة من الناحية النظرية ولكنها من الناحية الواقعية للأوضاع المالية فهي منطقتان، إذ إن المستثمرين يتعاملون مع دول الشمال الأوروبي الأعضاء في منطقة اليورو بمنطق مخاطر أقل بينما يتعاملون مع دول الجنوب التي ترتفع فيها معدلات الديون بنسبة مخاطر عالية.
ويرى مصرفيون أن أوروبا تواجه في الوقت الراهن أكثر من خمس عقبات قد تدخلها في مرحلة ركود اقتصادي خلال العام الجاري وربما في أزمة ركود تضخمي في العام المقبل خلال العام المقبل 2023، إن لم تتم تسوية الحرب الروسية في أوكرانيا.
وهذه الأزمات هي ارتفاع أسعار السلع وعراقيل سلاسل الإمدادات وتراجع قيمة صرف اليورو مقابل الدولار وعزوف المستثمرين عن شراء سندات الدين في الدول الضعيفة والشكوك حول النمو الاقتصادي ومستقبل تماسك المجموعة الأوروبية وسط المخاطر الجيوسياسية وكلف خدمة الديون المرتفعة في الدول الضعيفة مالياً.
في هذا الشأن يقول مصرف "رابو بانك" إن حظر الطاقة الروسية الذي أقرته الكتلة الأوروبية في الشهر الماضي من المتوقع أن يفاقم من أخطار النمو الاقتصادي بمنطقة اليورو. وحسب توقعاته في تقرير بهذا الصدد، فإن منطقة اليورو قد تدخل في "ركود اقتصادي بنهاية العام الجاري وأن ينكمش الاقتصاد بمنطقة اليورو بنسبة 0.1% خلال العام المقبل".
من جانبها تتوقع المفوضية الأوروبية في تقرير صدر بعد قرار حظر الطاقة الروسية أن يتراجع معدل النمو الاقتصادي بمنطقة اليورو إلى نحو 0.2% خلال العام الجاري وأن يرتفع معدل التضخم إلى 9.0% مرتفعاً من مستواه الحالي المقدر بـ8.1%.
وهذا الوضع، وحسب دراسة معهد بروغيل، هو الذي يعقد قرار البنك المركزي الأوروبي بشأن تشديد السياسة النقدية برفع معدل الفائدة على اليورو وسحب برنامج شراء السندات الذي كان يدعم تمويلات الدول الضعيفة مثل اليونان، والبرتغال، وإيطاليا، وإسبانيا.
وهنالك مخاوف من دخول منطقة اليورو في أزمة مالية بسبب ارتفاع معدلات الدين كنسبة من الناتج المحلي وارتفاع نسبة خدمة الدين في وقت يتراجع فيه النمو الاقتصادي، خاصة في دول الجنوب الأوروبي التي تعتمد في دخلها على السياحة والخدمات الصناعية.
وعلى الرغم من أن اليورو ارتفع في التعاملات الصباحية مقابل الدولار، كما ارتفعت الأسهم ولكن لا تزال قيمة العملة الأوروبية قريبة جداً من دولار واحد لليورو. وهنالك مخاوف من انزلاق اليورو إلى أقل من دولار إذا رفع بنك الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" الفائدة إلى أكثر من 0.75%.
ويتزايد القلق بشأن سندات الدين الإيطالي، إذ إنها ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا من حيث حجم الناتج المحلي ومن حيث حجم الديون، وبالتالي ستكون هنالك صعوبة في إنقاذها مالياً. وتجاوزت ديون إيطاليا 3 تريليونات دولار أو ما يعادل 152.3% من إجمالي الناتج المحلي. خلال العام الجاري.
وأزمة ديون اليورو ليست جديدة فهي تعود إلى عام 2008 وتفاقمت في عام 2011 حينما شهدت أوروبا أزمة البنوك وإفلاس عدة دول على رأسها اليونان. واضطرت دول الاتحاد الأوروبي لأول مرة للاستعانة بصندوق النقد الدولي لترتيب حزمة مالية ضخمة لإنقاذ اليونان من الإفلاس.