وتوقع المصريون كذلك أفول نجم أباطرة وتجار القمح الفاسد وسماسرة الأغذية إلى غير رجعة، والإسراع في محاكمة أشهر وزير زراعة في مصر، يوسف والي، والذي أدخل البلاد ملايين الأطنان من الأغذية الفاسدة والمسرطنة.
كما توقعوا أحلاماً براقة أخرى، منها أن تتحول بلادهم من أكبر مستورد للقمح في العالم إلى الاكتفاء الذاتي ثم التصدير، خاصة مع امتلاكها كلَّ مقومات ذلك، من أراض ومياه وأيد عاملة رخيصة، وتاريخاً طويلاً في زراعة القمح والذرة والفول يمتد لآلاف السنين .
لكن وبعد ما يقرب من 7 سنوات على قيام الثورة لم يغلق ملف القمح المسرطن، ولم يختف أباطرة الأغذية الفاسدة، وربما عاد تجار الموت أكثر قوة ونفوذاً ليتحالف مجدداً رأس المال الفاسد مع السلطة.
قبل أكثر من شهر ونصف الشهر، استوردت الحكومة المصرية شحنتي قمح، حجمهما 122 ألف طن من فرنسا ورومانيا، وعقب وصولهما الموانئ المصرية أعلنت الجهات المسؤولة بوزارة الزراعة عن احتواء الشحنتين على بذور الخشخاش المضر بالصحة العامة،
بل وكشفت سلطات الحجر الزراعي بميناء سفاجا الساحلي، الجهة الفنية المسؤولة عن فحص واردات القمح، عن تلوث شحنة القمح الفرنسي البالغ حجمها 59 ألف طن ببذور الخشخاش المسرطن، كما رفضت إدارة الحجر الزراعي شحنة القمح الروماني البالغ حجمها 63 ألف طن، كانت الحكومة قد اشترتها في 21 أغسطس/آب الماضي؛ بسبب تلوثها بنفس البذور.
في ذلك الحين، توقع الجميع رفض الحكومة الشحنتين، وانتظر الرأي العام في مصر أياما لإعلان السلطات المسؤولة عن هذه الخطوة، وبعد أكثر من أسبوعين من وصول الشحنتين، وفي منتصف سبتمبر/أيلول، خرج علينا المتحدث باسم وزارة الزراعة ، حامد عبد الدايم، ليعلن أن بلاده رفضت بالفعل شحنة قمح فرنسية لإصابتها ببذور الخشخاش وحولت الشحنة إلى النيابة للتحقيق بشأنها، بل شدد المسؤول المصري على أن وزارته "أصدرت تقريرا نهائيا برفض شحنة القمح الفرنسي المصابة ببذور الخشخاش الضارة... وأنه تم تحويل القضية إلى نيابة المخدرات. ومن المتوقع صدور قرار من النائب العام بإعادة شحنة القمح إلى بلد المنشأ".
هنا تنفس الجميع الصعداء بعدما أيقنوا أن عصابات الأغذية الفاسدة لن تمرر الصفقتين لأجساد المصريين هذه المرة، وسارت التوقعات نحو رفض شحنتي القمح وإعادتهما للبلدين اللذين جاءتا منهما وهي فرنسا ورومانيا، بل وتوقع البعض إعلان الحكومة مقاطعة القمح الوارد من البلدين، خاصة مع تكرار وصول شحنات قمح مضرة بالصحة العامة منهما.
لكن للأسف رأينا تحولا خطيرا في الملف، خاصة عقب تهديد أباطرة الأغذية الفاسدة وممثلي بعض الدول الموردة، بوقف توريد القمح لمصر في حال رفض شحنتها، بل والتلويح برفض منح الحكومة أية تسهيلات سواء في أسلوب سداد صفقات الشراء أو فترة السماح.
وبعد ضغوط على صانع القرار، أعلنت مصادر يوم 18 سبتمبر/أيلول أن وزارة الزراعة ستضطر إلى نقل شحنتي القمح، اللتين رفضهما الحجر الزراعي لاحتوائهما على بذور الخشخاش، من ميناء سفاجا إلى مكان آخر لغربلتهما، حال الموافقة الرسمية على دخولهما.
هنا تساءل كثيرون، وما وجه الاضطرار هنا خاصة أن دولا كثيرة تتسابق على تصدير القمح لمصر أكبر مستورد للأغذية في العالم؟ ولماذا قبلت الحكومة بهذا القمح المصاب ببذور الخشخاش؟ ومن الذي ضغط على الجهات المسؤولة للإفراج عن الصفقتين، ومن المستفيد من تمرير هذه الصفقات المشبوهة؟
وسارت الأمور، حسب رغبة جهات الضغط وبعض صانعي القرار في مصر، الذين أصروا على دخول الشحنة لتصل لأكباد وأجساد المصريين المتعبة أصلا بالأمراض، ولذا صدر يوم الأحد 24 سبتمبر/أيلول قرار من النيابة العامة بالموافقة على غربلة شحنة القمح الروماني، وبعد الغربلة يتم توزيع الشحنتين على مطاحن ومخابز مصر وتحويلهما لدقيق، يجد طريقه بعد ذلك لأفواه وأمعاء المصريين.
واللافت وقتها أن مفتشين بالحجر الزراعي وتجار حبوب محللين ودوليين قالوا إن عملية الغربلة تستغرق شهرا على الأقل، أي ستنتهي يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، على الأقل، لكن لم يمر يوم واحد حتى أعلن وزير التموين، علي المصيلحي، يوم الإثنين 25 سبتمبر/أيلول أنه تم الانتهاء من غربلة شحنة القمح الروماني، وأن القمح أصبح جاهزا للاستخدام بعد أن تمت غربلته.
التصريح بالطبع أثار دهشة المصريين، الذين انتظروا رفض الشحنة الرومانية، بل وأثار استغراب تجار قمح عالميين قالوا إن عملية الغربلة وعزل الخشخاش عن القمح ينبغي أن تستغرق أسابيع وليس يوما واحدا كما أعلن وزير التموين.
وفي اليوم التالي، الثلاثاء 26 سبتمبر/أيلول، خرج علينا مسؤول بوزارة الزراعة ليكذب تصريحات وزير التموين، ويؤكد أن شحنة القمح الروماني قيد الغربلة حاليا وأن العملية لم تنته بعد.
القصة لم تنته عند هذا الحد، فقد فوجئنا يوم الأحد الماضي بإعلان من نيابة البحر الأحمر في مصر، يؤكد أن السلطات أمرت بإفراغ وغربلة شحنة القمح الفرنسي المحتجزة منذ بداية شهر سبتمبر/أيلول لاحتوائها على بذور خشخاش، وبالطبع فإنه بعد الغربلة ستجد الصفقة الفرنسية طريقها للأسواق بعد أن سبقتها الصفقة الرومانية.
السؤال: ما الرسالة التي تود السلطات المصرية إرسالها من الإصرار على تمرير الصفقتين المشبوهتين للسوق المحلية وأمعاء المصريين؟ هل تود أن تقول لكبار تجار القمح في العالم إن كل شيء تحت السيطرة ولا يوجد ما يبعث على القلق، ولذا واصلوا توريد القمح سواء كان مصابا بالأرجوت أو الخشخاش المسببين للسرطان والأوبئة؟ أم تود أن تقول للموردين: اعبثوا كيفما شئتم بأجساد المصريين وأكبادهم فلن نرفض لكم صفقات مشبوهة بعد اليوم مهما كانت مضرة بالصحة العامة؟