هذا ليس مقالاً في اللغة؛ فلست مختصاً بها ولا خبيراً في شؤونها، بل مقال في اقتصاديات اللغة التي يتعامل معها الكثيرون كمجرد قضية هوية أيديولوجية، مُتناسين الحقائق المادية المُنتجة لوجودها والمؤسّسة لاستمرارها والمُحددة لمنطق عملها، شأنها شأن غيرها من الظواهر الاجتماعية، ومهما كان اتفاقنا مع أنصار دعاوى أن الاقتصاد ليس كل شيء؛ فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، يظل واقعاً أنه لا شيء في العالم يخلو من الاقتصاد؛ لأن لا حياة بغير ذلك الخبز ابتداءً.
وربما لا تخلو دوافع كتابة هذا المقال جزئياً من الاعتبارات الشخصية؛ كوني تطابقت اسماً، بصدفة لم أحبها، مع صحافي قام بترجمة رواية "العجوز والبحر" لإرنست هيمنغواي إلى العامّية المصرية، ما جلب عليّ كثيراً من الاستيضاحات؛ مع معرفة الكثيرين بموقفي السلبي المُعلن، بل شديد السلبية، من مسألة الترجمة إلى العامّية عموماً، فضلاً عن محدودية اهتمامي بالأدب وكونه خارج نطاق إنتاجي البحثي والترجمي بالمُجمل.
ولعلّها لذلك فرصة لمناقشة الأبعاد الاقتصادية لهذه القضية التي تبدو للوهلة الأولى مما يدخل في باب الرفاهات النظرية للأدباء والفنانين، فيما هي وثيقة الصلة بإحدى أهم مكونات رأس المال الاجتماعي للأمم، وبنيتها التحتية الإنتاجية والتبادلية، حتى وإن اتخذت شكلاً معنوياً غير ملموس بالمرة.
فاللغة تقنياً وسيط تواصل لتبادل المعلومات، تقوم بنفس الدور الذي تقوم به النقود كوسيط لتبادل القيم، ومثل ما توسّع الوحدات النقدية الكبيرة والأشكال غير الملموسة منها إمكانات التبادل والمعاملات الضخمة ونقل القيم الاقتصادية عبر الزمان والمكان، تيسّر اللغات الأكثر تطوراً، بما تمكله من إمكانات التجريد النظري والكتابة المنضبطة، تنظيم التفكير ونقل ومراكمة المعارف، والتي لولاها لما وُجدت الحضارة البشرية كما نعرفها اليوم.
ويؤكد اللغويون بصفة عامة وجود نوع من التراتب العام بين أنواع اللغات، فاللغات الشفاهية فقط أدنى درجة من نظيرتها الكتابية، واللغات محدودة الإمكانات التجريدية أقل قدرة وتحليلية من نظيرتها عاليتها، يدخل في هذا التفارق بين اللغات المعيارية - الفصحى والعامّيات - اللهجات؛ لا عجب كون الأولى لغة الفكر والعلم والقانون وكل ما تلزمه الدقة والانضباط الصارمين، فيما لا تتجاوز الثانية مساحات الفن الشعبي والجماهيري في أقصى الأحوال، ما يجد تفسيره بالطبع في القياسية والثبات النسبيين للأولى، مقابل التعدّد والعشوائية الهائلين للثانية.
وحيث تعجز تلك العاميات، اللهجات بالأساس، عن القيام بكافة وظائف اللغات المعيارية بسلاسة كافية، فإن محاولة تسييدها لن تنتهي سوى بسيادة لغة معيارية أخرى، خصوصاً مع قابليتها الأعلى للانتهاك اللغوي، أي الغزو العشوائي من لغات أخرى، وضمن سياق تاريخي تسود فيه لغة عالمية كالانكليزية بحكم القوة الاقتصادية الكامنة ورائها؛ بما يفكّك البقية الباقية من قواعد اللغة الأصلية، ويجعل تلك المحاولات لتسييد العاميات تعميقاً للتبعية الخارجية، اقتصادياً وثقافياً، حيث تأتي في سياق تاريخي مختلف تماماً عن سياق انفصال العامّيات الأوربية عن اللاتينية وتقنينها كلغات مستقلة (بتوليف بين بعض القواعد اللغوية والعاميات المتداولة)، ولا أدل على حتمية هذا الانتهاك الخارجي المحتمل من ذلك التشوّش اللغوي وضعف العربية الواضح لدي معظم خريجي المدارس الدولية والتعليم الأجنبي في مصر، وذلك بعيداً عن حساب التكاليف الضخمة لتعلّم وترجمة تلك اللغة الأجنبية كـ"لغة أولى بديلة" عملياً، والذي سبق أن وصفه الزعيم الهندي غاندي بسنوات عمل ضائعة على الأمة، مع تحوّلها -على الأرجح- لحاجز تمييز اقتصادي واجتماعي إضافي في سوق العمل بالخصوص.
وبشكل أكثر عمومية، تمثل أيّة محاولة لتسييد اللهجات العامية على اللغات المعيارية، خارج مساحات التعامل اليومي، نوعاً من العبث المكلّف، سواء من زاوية هدر الكفاءة بما ينتج عنه من تكاليف اجتماعية باهظة من ناحية، أو من زاوية الجدوى التاريخية المتعلقة بالقوانين الموضوعية لتكوّن وانقراض اللغات كأداة اجتماعية ضمن ترسانة التطور الاجتماعي للأمم من ناحية أخرى.
ثمن التعدد اللغوي
في رواية مشهورة تختلط فيها الحقائق التاريخية بالقصص الميثولوجية، يُحكى أن أحد أقدم الأبنية الأثرية، من عهد الملك نبوخذ نصر منشئ برج بابل، لم يكتمل بسبب الحواجز اللغوية بين العاملين، الذين شملوا بعض الحرفيين الأجانب بسبب نقص العمالة المحلية؛ حيث أدت الفوضى اللغوية لوقف المشروع بالكامل.
تعكس هذه القصة جانباً من خسائر التعدد اللغوي، وتشير المشاهدات إلى أن البلدان المُجزأة لغوياً أفقر بشكل عام، فمتوسط دخل الفرد فيها أقل من نظيره في البلدان الأقرب للوحدة اللغوية، فيسجل فلوريان كولماس في كتابه "اللغة والاقتصاد" (سلسلة عالم المعرفة (263)، الكويت، نوفمبر/ تشرين الثاني 2000)، أنه بحسب بيانات عام 1988، بلغ متوسط دخل الفرد 630 دولاراً في الفيليبين ذات التسعة وخمسين مليون مواطن يتحدثون 164 لغة، وحوالي 480 دولاراً في السودان ذات الثلاثة وعشرين مليون مواطن يتحدثون 135 لغة، و440 دولاراً في إندونيسيا ذات المئة وأربعة وسبعين مليون مواطن يتحدثون 659 لغة، و810 دولارات في بابوا-غينيا الجديدة ذات الثلاثة ملايين وسبعمائة ألف مواطن يتحدثون 849 لغة.
في المقابل، كان متوسط الدخل الفردي أكبر بكثير في البلدان المُوحدة لغوياً في نفس الفترة، فبلغ متوسط دخل الفرد 12810 دولارات في بريطانيا ذات السبعة وخمسين مليون مواطن يتحدثون سبع لغات، وحوالي 14520 دولاراً في هولندا ذات الأربعة عشر مليوناً ونصف مليون مواطن يتحدثون خمس لغات، و19300 دولار في السويد ذات الثمانية ملايين مواطن يتحدثون خمس لغات، و21020 دولاراً في اليابان ذات المئة واثنين وعشرين مليون مواطن يتحدثون خمس لغات، ولليابان تحديداً دلالة خاصة، كونها أسبق البلدان الشرقية دخولاً إلى عصر الصناعة منذ أواخر القرن التاسع عشر.
ولا شك أنه لا يمكن اختزال جذور تفاوتات الدخل المذكورة في مجرد فروق درجة الوحدة اللغوية؛ فلا يمكن بالتالي زعم وجود علاقة سببية اتجاهية مباشرة بين المتغيرين المذكورين، لكن المؤكد وجود ارتباط واضح بين التعدد اللغوي وانخفاض مستوى الدخل والتخلف الاقتصادي بصفة عامة، والذي يرجح كونه "ارتباط وحدة سياق" يتصل بالأسباب الأعمق لهذه التفارقات الداخلية نفسها، وفي قلبها ديناميات عملية التطور الاجتماعي بصفة عامة، التي تستلزم في مسيرة تحقّقها تضخماً نوعياً في دوائر الإنتاج وتوسّعاً جغرافياً في دوائر التبادل؛ وبالتبعية كشرط اكتمال، اندماجاً للأسواق، وربما توحداً للوحدات السياسية؛ بما تعنيه وتدفعه هذه العمليات جميعاً، بالحوافز الفردية التلقائية والجهود الاجتماعية المنظمة، من اتجاهات للتركّز اللغوي في بضع لغات أساسية، وربما لغة واحدة أو لغتين على الأكثر كلغات رسمية للدولة.
وهو الأمر الذي زادت أهميته بخاصة في اقتصاد التبادل النقدي واسع النطاق الحديث، الذي يتطلّب معايير ووسائط عاملة للتبادل والتعامل، هما النقد واللغة، فضلاً عما يتطلّبه الإنتاج الصناعي من أساليب مُوحدة ومنظمة وسكان متجانسين وعلى درجة عالية من التعليم، يؤيد هذا ما تؤكده الدراسات المختلفة من منافع الوحدة اللغوية، بل ومجرد التقاربات اللغوية بين المجموعات القومية والدول الوطنية المختلفة، فغالباً ما يؤدي وجود لغة مشتركة بين بلدين إلى زيادة التدفق التجاري بينهما بما يصل إلى 50%.
من ناحية أخرى، يلعب التعدد اللغوي دوراً سلبياً في الأداء الاقتصادي، فكما يشير باولو ماورو، نائب مدير الشئون المالية في صندوق النقد الدولي، يقلل التنوع العرقي- اللغوي الكفاءة المؤسسية والاستقرار السياسي ويرفع مستويات الفساد والمحسوبية والسعي للريع، ومعها جميعاً انخفاض الاستثمار والنمو الاقتصادي بعامة، كذا دراسة ويليام استرلي وروس ليفين عن "مأساة النمو في أفريقيا"، التي خلصت إلى أن التنوع اللغوي المرتفع في أفريقيا، مع تحدّث أكثر من 90% من سكان القارة لغات أخرى غير اللغات الرسمية لبلدانهم، أدى لضعف التعليم والأنظمة المالية وعدم كفاية البنية التحتية ورأس المال الاجتماعي، وعلى مستوى أكثر ميكروية، أشارت دراسات أخرى إلى الأفضليات التي تحوزها الشركات في أسواق المتحدثين باللغات التي تتعامل بها، فالشركات السويدية أكثر شعبية بخمس عشرة مرة بين متحدثيّ السويدية، ويميل البلجيكيون متحدثو الفرنسية لشراء الأسهم الفرنسية أكثر من غيرها.
مؤامرة ضد التاريخ
كذا، فمن وجهة الاتجاهات الموضوعية، يمثل هذا الاتجاه عملاً ضد التاريخ والتقدم، تماماً كدوافعه وخلفياته الأيديولوجية المتمثلة في النزعة الكيميتية الهادفة لإحياء الانتماء الفرعوني البائد، كانتماء بديل مناهض للانتماء العربي الإسلامي لمصر، ما يرقى به إلى مرتبة المؤامرة، التي تشير الشواهد لتمويلها خارجياً؛ بما يتسق منطقياً مع كافة محاولات إدامة تفكّك وتخلّف المنطقة وتعزيز تبعيتها على كافة الأصعدة، لكنها هذه المرة، لحسن الحظ، مؤامرة ضد التاريخ؛ لافتقادها الروافع الموضوعية من إمكانية عملية وجدوى اقتصادية.
فمن زاوية الإمكانية العملية، التي يمثل أهم أسباب كونها محاولة عبثية إهدارية بلا معنى هو مخالفتها لاتجاهات التطور الاجتماعية الموضوعية، بمقاييس التاريخ الكبير عموماً وبتسارع في مراحل الازدهار الاجتماعي خصوصاً، من توسّع للأسواق وتضخّم للأمم بالتوازي مع انخفاض أعداد اللغات وتقلّصها في بضع لغات أساسية في ما يمكن اعتباره قانوناً تاريخياً عاماً، فقد عرف العالم تاريخياً حوالي 15 ألف لغة بحسب أرجح التقديرات، اختفى أكثر من نصفها حالياً، ويتوقّع اللغويون اختفاء نصف اللغات الموجودة حالياً خلال قرن، بل وتصل التقديرات الأكثر حدّة لاختفاء 80% منها بنهاية القرن الحالي، وهو الاتجاه المنطقي تماماً مع المحدودية الشديدة للمتحدثين الأصليين لأغلب اللغات، والهيمنة المتزايدة للغات السائدة عالميًا، فيكفي أن نعرف أنه حسب تقرير جون باوليلو وأنوبام داس، الصادر عن معهد الإحصاء التابع لمنظمة يونسكو عام
2006، يتراوح عدد متحدثي 95% من لغات العالم ما بين 13 شخصًا و2.53 مليون شخص، فيما تستأثر عشر لغات فقط بما يقرب من نصف سكان العالم كمتحدثين أصليين لها، وتتسع عباءة انتشارها لما يقارب ثلثي سكان العالم بحساب متحدثيها كلغات ثانية.
فالاتجاه الموضوعي في ظل التشابك العالمي المتزايد هو الانقراض المُتسارع للغات الهامشية محدودة الاستخدام والفائضة عن الحاجة لصالح هيمنة بضع لغات رئيسية تمثل القوى الأضخم اقتصادياً وسكانياً، بما يتماشى منطقياً مع تضخم الإنتاج بفضل التطور التقني، والحاجة المنطقية لتوسّع نطاق التبادل والأسواق بأنواعها المختلفة من أسواق سلع وعمل ورأسمال؛ بما تستلزمه من حاجات أكبر للتواصل السلس غير المكلف، حدّ الاندماج حيثما أمكن، كما يتجلّى تاريخياً في تضخّم أحجام الوحدات الاقتصادية/السياسية، التي أخذت شكل الدول القومية الحديثة، التي عزّزت بدورها من صيرورة التمرّكز اللغوي حول مجموعة لغات رسمية أساسية لتقليل التكاليف غير الضرورية للتعدد اللغوي فردياً وجماعياً.
ومن زاوية الجدوى الاقتصادية، تتعارض هذه الدعوات الانغلاقية بعمومها مع مصالح القوى الاقتصادية العربية الكبرى، في سعيها الحالي المحمود لتنويع مصادر دخولها والخروج من أسر الاقتصادات النفطية الريعية، والمُرجح بطبيعة الحال تنامي مصالحها الإقليمية في سياق الركود العالمي القادم، الذي سيضعف التجارة الدولية (كما تشير الاتجاهات فعلياً منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008) لصالح قدر من الاتساع النسبي -غالباً- للترتيبات الإقليمية؛ وبالتالي حاجتها للاستفادة من الوحدة اللغوية للمنطقة، بل وربما تعزيزها للتغلّب على حواجز اللهجات العامية؛ ما يتسق مع المصالح الاستراتيجية لكامل المنطقة في التقارب الاقتصادي، ويستبطن بالطبع منطق الكفاءة في الاستفادة من تلك الوحدة اللغوية كرأسمال اجتماعي للمنطقة في تعميق وتوسيع دوائر إنتاجها وتبادلها معاً.
بل إن المُفارقة الساخرة في محاولات تسييد العامية هذه هي اعتمادها على التمويل الخارجي لمشروعات نشرها الثقافي، وليس اعتمادها على أي منطق اقتصادي يستفتي السوق الحرة والشعب المعني بالأمر نفسه كجمهور مُفترض، أما المفارقة الدالة حقاً، فهى هيمنة الإنكليزية على النسيج اللغوي لمعظم أصحاب هذه الدعوات، مع عدم سعيهم لاستخدام أيّ من عامّياتها في كتابتها (فلديها العديد من اللهجات داخل حدود لندن وحدها)؛ وكأنما العامية مُقدّرة على، ومشروعة مع، الكتابة بالعربية وحدها، وتحديداً العامّية القاهرية التي لا تمتلك أيّة مشروعية منطقية تتجاوز بقية عامّيات مصر وتعطيها تاج العامّية المصرية الوحيدة، وبما يكذّب دعواهم بوجود قواعد لغوية حقيقية لهذه العامّية المصرية المُتفرق دمها والمُمزّق لحمها بين أقاليم مصر المختلفة؛ ما يؤكد بمجموعه سوء النوايا الكامن وراء هذه الدعوات، سواء دعوات الهويات البائدة أو العامّية المصرية، المدفوعة أساسًا بمجموعات تعادي الانتماء العربي والإسلامي لمصر، والمدعومة من قوى غربية ترى دوام هيمنتها مشروطاً بتعميق التفكّك العربي كإطار ضروري لاستمرار حالة التبعية والتخلّف في عالم لا مستقبل حقيقي فيه للوحدات الاقتصادية السياسية الصغيرة.