عادت العملة التركية للتراجع مجدداً، إذ انخفض سعر صرف الليرة، أمس الأحد، إلى نحو 12.5 ليرة للدولار الواحد، بعد التحسن الذي شهدته في اليومين الماضيين وصولاً إلى 11.5 ليرة للدولار، ليطرح أسئلة منها:
هل ستواجه الليرة مزيداً من التهاوي خلال الأسابيع المقبلة، وكيف استجابت المصارف التجارية في تركيا لانهيار العملة خلال الشهر الجاري، ولمَ تتراجع الليرة أصلاً رغم تحسن المؤشرات الاقتصادية الكلية خصوصاً معدل النمو وأنشطة الصادرات والسياحة والعقارات؟
هذه الأسئلة وغيرها باتت تطرح نفسها بإلحاح في سوق الصرف الأجنبي وردهات المصارف الاستثمارية الغربية التي استثمرت بكثافة في سوق القروض التركية خلال السنوات الأخيرة.
حتى الآن تعاني الليرة التركية من مجموعة عوامل تضغط على مستقبل سعرها بينما يراهن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على نجاح سياسة "الاستقلال الاقتصادي والمالي" التي دشنها عبر خفض سعر الفائدة، ويرى أنها ستخرج الاقتصاد التركي من الارتهان لضغوط المصارف الاستثمارية التي أرهقت الأعمال التجارية والمستهلك وتسببت في غلاء المعيشة.
يراهن أردوغان على نجاح سياسة "الاستقلال الاقتصادي" التي دشنها عبر خفض سعر الفائدة، ويرى أنها ستخرج الاقتصاد من الارتهان لضغوط المصارف الاستثمارية
يذكر أن تركيا تمكنت منذ صعود حزب "التنمية والعدالة" للحكم من تسديد كامل ديونها لصندوق النقد الدولي في العام 2015، وخرجت من هيمنة الصندوق وشروطه القاسية على سياساتها المالية والنقدية.
وتبعاً لهذا النجاح يرغب أردوغان حالياً في فك أسر الاقتصاد التركي من هيمنة المصارف التجارية الغربية التي تربح كثيراً من الفائدة المرتفعة ببلاده، التي بلغت 19% في وقت تقارب فيه الفائدة صفرا وأقل من ذلك في بعض الدول الغربية.
في شأن مستوى سعر الليرة خلال الأسابيع المقبلة، يتوقع المحلل بمصرف "جيفريز" الاستثماري الأميركي، براد بيكتل، أن تتراجع الليرة إلى أدنى من مستوياتها الحالية خلال الأسابيع المقبلة.
من جانبه، يرى المحلل المالي كريغ أيرلام في تعليقات لصحيفة "وول ستريت جورنال" أن نتائج "اقتصاد إردوغان" بدأت تظهر في تركيا، فقد أدى خفض الفائدة على الليرة إلى ارتفاع معدل التضخم بنسبة 20%، كما خسر سعر الليرة نحو 30% منذ سبتمبر/ أيلول الماضي.
ويلاحظ أنّ المصارف التجارية الغربية تستدين بهذه الفوائد الصفرية من بنوكها المركزية بالدولار أو اليورو أو الين الياباني وتقرض البنوك والشركات التركية بنسبة 19%، وبالتالي فإن البنوك التجارية الغربية تحقق أرباحاً ضخمة من الفارق بين الفائدة المنخفضة جداً في بلدانها والفائدة المرتفعة جداً في تركيا.
تتهم تركيا مضاربين محليين وشركات كبرى بشراء الدولار "بشكل كبير" الأمر الذي دفع أردوغان إلى الإعلان عن فتح تحقيق في تلاعب محتمل في العملة
وهذا ما حدا أردوغان إلى الإصرار على خفض الفائدة رغم كل الانتقادات الداخلية والخارجية، ولكن هل سينجح في ذلك دون حدوث هزة في الاقتصاد والقطاع المصرفي والسوق الاستهلاكي بالبلاد؟
وتتهم تركيا مضاربين محليين وشركات كبرى بشراء الدولار "بشكل كبير" الأمر الذي دفع أردوغان، يوم السبت، إلى الإعلان عن فتح تحقيق في تلاعب محتمل في العملة، بعد عودة تراجع سعر الصرف خلال اليومين الماضيين، إثر التعافي الذي شهدته بعد سلسلة من الهبوط الحاد.
وكلف إردوغان مجلس الرقابة الحكومي بتحديد المؤسسات التي اشترت كميات كبيرة من العملات الأجنبية، وتحديد ما إذا كان قد حدث أي تلاعب، قائلاً إنّ هبوط سعر الليرة يأتي جراء "تلاعبات من أولئك الذين يريدون إخراج بلادنا من المعادلة".
في المقابل، يقدم مصرف "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي مبررات اقتصادية لتراجع سعر الليرة حيث يرى أن التراجع الذي حدث كان بسبب المبيعات المكثفة التي تعرضت لها بسبب الخفض السريع بسعر الفائدة خلال الشهر الجاري، ولكنه يرى أن العجز في الحساب الجاري تحسن كثيراً مقارنة بالعام الماضي، ويقول "غولدمان ساكس" إن عجز الحساب الجاري بتركيا تراجع أكثر من 50% مقارنة بحجمه في العام الماضي.
لكنّ ما يدعم استراتيجية خفض الفائدة وعلى خلاف ما يعتقد مصرفيون أجانب، فإن البنك المركزي التركي لديه احتياطات كافية من النقد الأجنبي، كما أن قدرة المصارف التركية على مقاومة الصدمات المالية جيدة.
وحسب بيانات البنك المركزي التركي التي نشرها يوم الجمعة على موقعه، فإن إجمالي الاحتياطات بالمركزي ارتفعت بنسبة 2.2% إلى 123.9 مليار دولار بما في ذلك احتياطات النقد الأجنبي التي ارتفعت بنسبة 2% إلى 76.4 مليار دولار.
وتشير هذه البيانات إلى أن البنك المركزي التركي تعلم من الدروس الماضية ولم يستخدم احتياطاته هذه المرة في الدفاع عن الليرة وخسارة احتياطات النقد الأجنبي مثلما حدث في السنوات الماضية.
البنك المركزي التركي تعلم من الدروس الماضية ولم يستخدم احتياطاته هذه المرة في الدفاع عن الليرة وخسارة احتياطات النقد الأجنبي مثلما حدث في سنوات ماضية
وأظهرت بيانات المركزي التركي قدرة تحمل المصارف التجارية التركية للصدمات، كاشفة أنّ البنوك التجارية في البلاد في وضع صحي جيد ولديها سيولة كافية لمقاومة أزمة الليرة. وحسب محللين فإنّ هذا العامل خفف الضغوط على أردوغان.
ويرى اقتصاديون بصحيفة "وول ستريت جورنال" أنّه إذا كانت هنالك أزمة سيولة بالبنوك التجارية، فإنّ الضغوط ستتكثف على الرئيس أردوغان بتغيير سياسة خفض سعر الفائدة، وربما إلى رفعها لتلافي المخاطر المحتملة بالنسبة للقطاع المصرفي التركي، لكن ما دامت البنوك لا تعاني من نقص في السيولة بالعملة المحلية أو العملات الأجنبية فإنّ أردوغان سيستمر في سياسة خفض الفائدة، إذ إنّ كفاية السيولة ستوفر سنداً للبنوك التجارية ضد المخاطر، مع الإشارة إلى أنّ معدل الفائدة التركية انخفض حتى الآن إلى 15%.
وتقول بيانات "ستاندرد آند بورز غلوبال إنتيلجينس" في تحليل، إنّ ارتفاع عمليات الاقتراض من قبل الأفراد والشركات في العام الماضي 2020، وهو عام الإغلاق بسبب جائحة كورونا، ساهم في ارتفاع أرباح البنوك التجارية بتركيا إلى أعلى مستوياتها، فقد بلغت الأرباح في المتوسط نسبة 11.0%.
وكانت الجائحة قد أجبرت المواطنين والأعمال الصغيرة على استخدام بطاقات الائتمان بكثافة والاستدانة لتغطية النقص في الدخل.
وحسب بيانات شركة "ياتريم فاينانس" المتخصصة في البيانات المالية التركية، فإنّ حجم القروض الشخصية بتركيا ارتفع بنسبة 42% في العام الماضي 2020 ونما بنسبة 11% حتى نهاية سبتمبر/ أيلول من العام الجاري.
تركيا تفادت "شباك المضاربة" للدفاع عن الليرة خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري الذي شهدت فيه الليرة أكبر تراجعاتها
على صعيد الضغوط المتوقعة للاحتياطات الأجنبية بالبنك المركزي التركي، يلاحظ أنّ تركيا تفادت "شباك المضاربة" للدفاع عن الليرة خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري الذي شهدت فيه الليرة أكبر تراجعاتها، إذ عادة ما ينصب المضاربون من كبار المستثمرين في العملات التي تعاني من اضطراب في سعرها هذه الشراك لتحقيق أرباح طائلة، مثلما حدث في الماضي لعملات عريقة مثل الجنيه الاسترليني في التسعينيات حينما كسب الملياردير جورج سورس، مليار دولار من المضاربة عليه، إذ تعلمت من خسائر الأعوام الماضية.
وحسب بيانات المركزي التركي، فإنّه خسر نحو 21.5 مليار دولار بين يناير/ كانون الثاني 2019 ويناير 2020.
أما المخاوف الأخرى التي تكتنف مستقبل الليرة فهي ارتفاع الديون الخارجية التركية قصيرة الأجل، التي يحل أجل سدادها في فترة عام أو أقل، إذ إن تسديد فوائد هذه الديون مرهق للبنوك التجارية والأعمال التجارية حينما تكون الفائدة مرتفعة.
وحسب بيانات البنك المركزي التركي المنشورة على موقعه في 19 أغسطس/ آب الماضي، فإن الديون الخارجية التركية قصيرة الأجل التي تخص القطاع الخاص بلغت حتى نهاية سبتمبر/أيلول الماضي 124.9 مليار دولار بزيادة 9.4% عن مستوياتها في نهاية العام الماضي 2020.
وارتفعت ديون المصارف التجارية قصيرة الأجل في نفس الفترة بنسبة 1.2% إلى 58 مليار دولار، أما ديون القطاعات الأخرى في الاقتصاد فقد ارتفعت بنسبة 15.1% إلى 40.9 مليار دولار.
وحسب بيانات البنك المركزي فإنّ إجمالي الديون قصيرة الأجل للقطاعين الخاص والعام في تركيا بلغت بنهاية سبتمبر الماضي 168 مليار دولار، من بينها 17.3 مليار دولار ديون البنوك التجارية وفروعها الخارجية، والباقي ديون القطاعين الخاص والعام، إضافة إلى ديون البنك المركزي البالغة نسبة 15.5% أي نحو 26.88 مليار دولار.
هنالك عوامل ربما تؤثر على سعر الليرة التركية في المستقبل من بينها التوتر الجاري بين أنقرة وواشنطن وحلفائها، وتداعيات "أوميكرون"
بناء على بيانات المركزي التركي لا يبدو أنّ المصارف التجارية تعاني حتى الآن، لكن هنالك عوامل أخرى ربما تؤثر على سعر صرف الليرة التركية في المستقبل من بينها التوتر الجاري بين أنقرة وواشنطن وحلفائها، وتداعيات المتحور "أوميكرون" على دخل السياحة في تركيا، وانعكاس المستقبل المجهول للسياسة المالية والنقدية على تسعير الأصول التركية حتى تتم المتاجرة فيها وحساب المخاطر، وذلك إضافة إلى هروب الاستثمارات من البلاد ومخاوف المستثمرين من تآكل ثرواتهم بالليرة.
ويبدو أنّ ما يقلق المستثمرين الأجانب في تركيا ليس فقط خفض المركزي التركي للفائدة في وقت تشدد فيه المصارف المركزية الغربية الفائدة، لكن كذلك كيفية التعامل في الصفقات التجارية المستوردة بالعملات الأجنبية وسط التغير المستمر في سعر الليرة يومياً.