وعدت الحكومة المصرية بتطبيق منظومة إلكترونية لإعداد وإدارة مرتبات ومستحقات العاملين على مستوى الدولة في يناير/كانون الثاني المقبل. ظلت المنظومة مطلبا شعبيا لسنوات طويلة، تستهدف أن يكون لكل موظف، رقم حساب موحد يتلقى عليه راتبه وكل ما يصرف له من حوافز ومكافآت دورية أو غيرها.
الهدف الأساسي من المنظومة أن يصرف المال العام في مسار واحد، يسهل على أساسه معرفة الدخل الحقيقي للموظف العمومي، لتحقيق الشفافية وضمان رقابة الدولة والمجتمع على مصادر التمويل والصرف.
ضمان الشفافية بداية المحاسبة للمسؤولين عن أموالهم، فيعرف الشعب كيف اكتسبوا المال، وبالتالي سينفقونه، ويضع حدودا لشرائح الدخول.
هذا الأسلوب متبع في أنحاء العالم، وحاولت ثورة 25 يناير دعمه بإخراج قانون للعدالة الوظيفية، ووضع حد للسقف الأعلى للموظف العام بنحو 42 ألف جنيه شهريا. نجح الثوار في فرض إرادتهم على السلطة التنفيذية، في عهد كان لهم كلمة ورأي، وبعد أن انقلبت الأوضاع وأصبح الثوار في عيون السلطة خونة ومارقين، تفلت كثيرون من القانون، فتحول عمليا إلى حبر على ورق.
بدأ الخروج على القانون بزمجرة من رؤساء البنوك العامة الذين تفوق رواتبهم الشهرية مليوني جنيه وربما أكثر، عام 2014. هددوا باستقالات من مناصبهم، تلاهم كبار الموظفين الذين يحصلون على ملايين الجنيهات سنويا من المال العام.
أعقبهم في الزمجرة رجال القضاء الذين أصروا على الاحتفاظ بقوانينهم الخاصة، وكأن الأمور المالية تدار بميزانية دولة أخرى. صدرت الاستثناءات بعد ذلك للجيش والشرطة وغيرهم في الأجهزة السيادية، فأصبحنا أمام قانون فارغ عمليا من المضمون.
يطبق القانون حاليا على أصحاب الوظائف البسيطة، وبخاصة العاملون في التربية والتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والمحليات. ويخص كبار الموظفين أنفسهم بعمل قنوات بديلة لكسر القيود التي فرضها القانون على رواتبهم، عبر الحصول على حوافر ومكافآت من أطراف بعيدة عن مصادر تمويل جهتهم، وهو الأمر الذي كشفته مراجعات الموازنة السنوية لبعض الوزارات.
اكتشفت وزارة المالية حصول ضباط على مكافآت من وزارة التربية والتعليم، ومسؤولين بالمحليات على مكافآت من وزارة النقل وهكذا.
تمول تلك المكافآت من حساب الصناديق الخاصة التي توسعت الوزارات في إنشائها بعيدا عن جهات الرقابة على المال العام، رغم أن مواردها تأتي من رسوم سيادية، أو إتاوات مفروضة بقوة القانون، مثل أعمال المحاجر ومواقف السيارات والسير على الطرق.
تهتم وزارة المالية في مشروعها المنتظر، بتوحيد وميكنة قواعد احتساب الضرائب والتأمينات، تضمن حصولها على مستحقاتها بـ "دقة وعدالة" بين العاملين بالدولة.
واضح من الخطوة أن الوزارة تسعى إلى تحقيق ما يعنيها، من زيادة الدخل. لا تهتم الوزارة بشفافية صرف المال العام وتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة، التي تقلل الفوارق الطبقية، بين الموظفين في الدولة، ليمتد أثرها بين العاملين بالقطاعين العام والخاص.
الفروق الاجتماعية بين مستويات الدخول تصنع الآن سدوداً بين الناس، بخلاف الأسوار التي وضعتها الحكومة، بما تقيمه من مدن سكنية تعتمد على انتشار الحواجز الإسمنتية بين المواطنين. تشق الحكومة الطرق الواسعة بالمناطق العشوائية، وتسورها حتى لا يطل المصريون على بعضهم، فتزداد الفوارق والعزلة بين الجميع.
بعدما زادت الحواجز، وضعفت قدرة الحكومة على تمويل مشروعاتها الفارهة من المال العام، لأقلية تراها هي النصير والأمل في الحفاظ على تلك المكاسب، تطالب المجتمع بأن يشد الحزام على بطنه، ويتحمل المصاعب التي صنعتها بأيديها تجاه الأغلبية الساحقة التي تدفع الضرائب وتمول أكثر من 77% من ميزانية الدولة.
قد تنجح وزارة المالية في تطبيق التجربة المطلوب تنفيذها من البنك الدولي وصندوق النقد منذ سنوات، لكن المؤكد أن تلك الإجراءات لن تحقق الشفافية أو تطاول كبار المسؤولين وبخاصة الجهات "المارقة" على قوانين تحقق المساواة والعدالة بين فئات المجتمع.
ما زال النظام يصنف الوزارات سيادية وخدمية بالمعنى الدارج للكلمة وليس وفقا للدستور. فالناس في الدستور متساوون في الحقوق والواجبات، لكن عند النظام ما زال هناك أسياد وخدام.
إذا كان ما ذكرناه مغايراً للواقع، فتعالوا نفعل ما يفعله الآخرون لتحقيق العدالة الضريبية والشفافية في إنفاق المال العام.
لن نعود إلى عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يساوي بين ما يتقاضاه الحاكم والمحكوم، من عطايا بيت المال. ولن نطلب من الرئاسة بيع طائراتها كما فعل رؤساء بعض الدول أو التخلي عن القصور، وتأجيل شراء أساطيل السيارات الفارهة للوزراء وكبار المسؤولين. عليهم أن يسيروا على نهج الوزراء والمسؤولين في كثير من أنحاء العالم، الذين يقدمون كشف حساباتهم سنوياً للبرلمان، وتحدد رواتبهم من ممثلي الشعب.
عندما تسلم ريشي سوناك منصبه كرئيس جديد لرئاسة وزراء بريطانيا، قدم الرجل الذي تقدر ثروته بنحو 760 مليون جنيه إسترليني، كشف حساب للبرلمان بكلّ ثروته، وحدد البرلمان له راتباً سنوياً يعادل 161 ألف جنيه.
يخصص البرلمان الفرنسي لرئيس جمهورية فرنسا 15 ألفاً و200 يورو شهرياً، يدفع عنها الضرائب.
راتب مستشار ألمانيا ينظمه القانون، إذ يتقاضى 25 ألف يورو شهرياً. يحصل رئيس وزراء إسبانيا على 7 آلاف يورو شهرياً، ويسعى لزيادتها لمواجهة الغلاء السائد في أوروبا حالياً.
ستحصل جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا على 6700 يورو شهريا، وفقاً للقانون، وهو راتب يتقاضاه فني قديم أو مهندس خبرة 10 سنوات.
يبلغ راتب رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس 1800 يورو. يحصل رئيس وزراء بلجيكا على 20 ألفاً و800 دولار شهرياً. زاد راتب رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون ديرلاين إلى 28 ألف يورو مؤخراً.
كمصري، تستطيع أن تعرف دخل رئيس أي دولة منتخب. فالرئيس الأميركي توضع قيمة راتبه ومن معه على موقع البيت الأبيض ووزارة الخارجية. تستطيع أن تتحقق من مصادر الدخل لأي مسؤول أو جهة تحصل على دعم من المال العام في أي مجتمع حر.
الهدف من ذلك الرقابة الشعبية، فالأمر لا يتوقف عند حصر الضرائب المترتبة على نشاط الشخص، فالأهم هو شفافية المعاملات المالية للمسؤولين، وأن تكون السيادة للشعب، الذي يطلبون منه الآن شد الحزام على البطون، بينما يرى كبار القوم يتمرغون في نعيم لا يحاسبون على مصادره.