التطرف يهدد الاقتصادات الغربية: النظام الرأسمالي يئن تحت ضغوط الديون والغلاء

25 يونيو 2024
ماريان لوبان تقترب من حكم فرنسا/9 يونيو 2024(فرانسيسكوس لو بريست/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة والحركات الشعبوية في أوروبا وأكبر ديمقراطيات العالم يثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية الليبرالية والنظام الرأسمالي، مدفوعاً بضعف الأحزاب التقليدية وتفاقم الفجوة الاقتصادية.
- الديون السيادية تجاوزت 100% من الناتج المحلي في دول أوروبية عدة وتحديات مماثلة في الولايات المتحدة بديون تقدر بـ35 تريليون دولار، ما ينذر بنهايات غير سعيدة للدول المثقلة بالديون.
- تفاقم الفجوة بين الأثرياء والفقراء وارتفاع التضخم يضغطان على النظام الرأسمالي، مع تزايد الضغوط المالية على الفقراء والطبقة الوسطى، ودعوات لفرض ضرائب أعلى على الأثرياء لدعم الخدمات العامة وتحسين الأجور.

تتزايد شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة والحركات الشعبوية الوليدة في أوروبا، بينما تجرى الانتخابات في ثلاث ديمقراطيات كبرى في العالم، وهي أميركا وفرنسا وبريطانيا. وسط هذا الصعود الجماهيري للأحزاب المتطرفة وهبوط شعبية الأحزاب التقليدية، يتساءل البعض عن مصير النظام الليبرالي الديمقراطي في العالم، وعما إذا كان النظام الرأسمالي يستطيع الصمود أمام الأزمات المالية والاقتصادية التي بات يعاني منها خلال السنوات الأخيرة.

في هذا الإطار، يلاحظ خبراء أن النظام الرأسمالي الليبرالي بات يترنح تحت ضربات الديون ونفوذ المليارديرات على القرار السياسي وضمور الطبقة الوسطى وارتفاع التضخم وتفاقم الفجوة بين الأثرياء وسواد المجتمع. وكانت النتيجة لهذه الأزمات صعود التيار اليمني المتطرف الذي بات على وشك أن يحكم فرنسا، التي تشهد انتخابات برلمانية في نهاية الشهر الجاري. وهذه الأزمات باتت تخنق النظم الديمقراطية والحريات والعدالة في الدول الغربية، وحولت تدريجياً الأحزاب التقليدية الحاكمة إلى حكومة أقليات تحكم لصالح فئة محدودة تتناقض مصالحها مع السواد الأعظم من الناس. 

على صعيد أزمة الديون، تشير بيانات المفوضية الأوروبية إلى أن الديون، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، فاقت نسبة 100% في كل من اليونان وإيطاليا التي بلغت نسبة الديون فيهما 137% من الناتج المحلي، وفرنسا نسبة 110% وإسبانيا نسبة 107% وبلجيكا نسبة 105%. وفي الولايات المتحدة، تهدد الديون المتفاقمة مكانة "الدولة العظمى" للدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم. حيث تسبح أميركا حالياً في بحر مجهول من الديون السيادية، وتبدو الحكومة غير قادرة على خفض الأرقام الفلكية للديون التي تقدر قيمتها حالياً بنحو 35 تريليون دولار.

موقف
التحديثات الحية

ووفق تحليل للمؤرخ الأميركي نيال فيرغسون في صحيفة وول ستريت جورنال، نشر يوم السبت الماضي، فإن هذه الديون تهدد مستقبل الولايات المتحدة، وهنالك سوابق تاريخية ترتبت على السباحة في الديون من دون الاهتمام بالعواقب. ويقول إنه على مر القرون وفي جميع أنحاء العالم، واجهت الدول والإمبراطوريات التي تراكمت عليها الديون نهايات غير سعيدة أدت إلى انهيارها.

واستشهد المؤرخ الأميركي فيرغسون بما أسماه قانونه الشخصي للتاريخ وقال: "إن أي قوة عظمى تنفق على أقساط الديون، أي دفعات الفائدة على الدين الوطني، أكثر مما تنفق على الدفاع، ستخسر مكانتها العظمى". ويقول: "هذا ما حدث للإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية والعثمانية. ويبدو أن الولايات المتحدة بديونها البالغة 35 تريليون دولار تسير في نفس الطريق". أضاف أن هذا القانون على وشك أن ينطبق على الولايات المتحدة.

ويقول: "ابتداءً من هذا العام، من المتوقع أن يصل الدين العام في أميركا إلى مستوى قياسي يبلغ 106% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل الرقم القياسي الذي سُجّل خلال الإنفاق الكبير لتمويل الحرب العالمية الثانية". وبحلول عام 2034، من المتوقع أن تصل نسبة الدين العام إلى 122% من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ حالياً 28 تريليون دولار. وإذا حدث ذلك، فسيكون أعلى مستوى يُسجّل على الإطلاق.

وأزمة الغرق في الديون ترفع من خدمة الدين العام على حساب بنود الإنفاق الأخرى، وتجبر الحكومات على مواصلة تراكم العجز في الميزانيات أو خفض الإنفاق على الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم والاستثمار في البنى التحتية، وفق اقتصاديين.

على صعيد التضخم الذي ارتفع منذ العام 2021 إلى أعلى مستوياته في أوروبا، حيث ارتفع بنسبة فاقت 10%، وكانت له تداعيات كبيرة على زيادة نسبة الفقر في القارة. وفي الولايات المتحدة ارتفع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، بعد أن ارتفعت أسعار الوقود خلال الشهر الأول من الحرب في أوكرانيا. وارتفعت أسعار السلع بنسبة 8.5 في المئة، وهي أكبر زيادة سنوية منذ ديسمبر/كانون الأول 1981. وعلى الرغم من أن التضخم تراجع إلى أقل من 3% خلال الشهر الماضي، إلا أن أسعار السلع الغذائية لا تزال مرتفعة، كما أن أقساط القروض العقارية لا تزال تبلغ نسبة 7%.

يذكر أن حظر واردات النفط والغاز من روسيا بعد غزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 أدى إلى حدوث ارتفاع جنوني في أسعار الوقود والمواد الغذائية. ومعروف أن الوقود يدخل في جميع مراحل إنتاج وتوزيع السلع. ووفق بيانات رسمية أميركية، فقد قفزت أسعار الطاقة في الولايات المتحدة بنسبة 32 في المئة في العام 2021، وفقاً لبينات وزارة العمل الأميركية.

وقالت الوزارة إن أسعار المواد الغذائية ارتفعت خلال نفس الفترة بنسبة 8.8 في المئة. ومعروف أن كلاً من روسيا وأوكرانيا من بين الدول الرئيسية في إنتاج القمح والحبوب الزيتية والأعلاف. وارتفاع الأسعار لا يرجع فقط إلى الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن جزءاً لا يستهان به يرجع إلى جشع التجار والشركات التي عادة ما تحتفظ بالأسعار مرتفعة حتى بعد زوال أسباب الغلاء. ويرى محللون أن ارتفاع التضخم يضرب ميزانيات الأسر في الدول الغربية الرأسمالية ويخفض الدخل بالنسبة لأصحاب الادخار ويفقر كبار السن وأصحاب المعاشات. 

أما العامل الثالث فهو تزايد نفوذ الأثرياء وهيمنتهم على القرار السياسي. في هذا الشأن، يرى تحليل في صحيفة نيويورك تايمز أن الفوارق الهائلة في الدخل والثروة تترجم إلى فوارق مماثلة في النفوذ السياسي في الولايات المتحدة. ولاحظ التقرير أن معدلات الضرائب على الشركات وأصحاب الدخول المرتفعة تواصل الانخفاض، بينما تُسحق النقابات وأصبح الحد الأدنى للأجور، المعدل حسب التضخم، أقل مما كان عليه في الستينيات.

ويقول محللون إن الحكومات الغربية التي تتبنى النظام الليبرالي وآليات السوق الحر باتت تخدم قضايا الطبقة الثرية على حساب الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة، حيث تتكدس الثروات لدى الأثرياء ويستشري الفقر بين سواد المجتمع. وعادة ما تنقذ الحكومة الأميركية أسواق المال والشركات بأموال الضرائب التي يدفعها العمال والموظفون، كما حدث في العام 2008 حينما ضربت أزمة المال الأسواق الأميركية. وبدلاً من معاقبة المصارف التي تسببت في أزمة المال العالمية عبر السندات العقارية الفاسدة، كوفئت عبر شراء سنداتها ومنحها القروض المجانية. 

ويلاحظ محللون أن هنالك تحالفاً بين الساسة والأثرياء ضد عامة المواطنين في الدول الرأسمالية. وباتت أسواق المال والبورصات وحكومات العالم تسيطر على القرار السياسي. حيث تضخمت أسواق المال إلى نحو ثلاث مرات من حجم الاقتصاد الأميركي خلال العام الجاري. كذلك، فإن هؤلاء الأثرياء باتوا قريبين من مراكز القرار المالي والنقدي والسياسي في الاقتصادات الكبرى. ولاحظ محللون أن التكاليف المرتفعة للوقود والمنتجات الغذائية لم تمنع الشركات من جني أرباح قياسية، إذ حققت الشركات المدرجة في قائمة Fortune 500، في العام الماضي 2023 وحده، أرباحًا غير مسبوقة بلغت 1.8 تريليون دولار من إيرادات بلغت 16.1 تريليون دولار، وفقاً لتقرير في مجلة فورشن.

وأدى ارتفاع التضخم إلى اتساع فجوة التفاوت في الدخل، وهو تطور يضر بكثير من الناس، ويهدد تماسك النسيج الاجتماعي. وعلى الرغم من المطالبات بفرض ضرائب أعلى على الأغنياء وزيادة الإنفاق على الطبقة العاملة وزيادة الأجور، فإن الأحزاب الحاكمة مهتمة بمصالح الأغنياء على حساب عامة المواطنين. وتوصلت دراسة نشرت مقتطفات منها صحيفة نيويورك تايمز إلى أن الأثرياء، على عكس الناخبين بشكل عام، يعطون الأولوية لخفض الضرائب، مثل الضريبة العقارية التي يدفعها الأثرياء فقط والضرائب على أرباح رأس المال، لأنهم ببساطة يملكون الاستثمارات في الأسهم والسندات والشركات.

وهنالك نحو 50% من مواطني أميركا لا يملكون استثمارات في الأسواق المالية ناهيك أن تكون لهم حصة في الشركات. كما يفضل الأثرياء، وفق الدراسة، التخفيضات في الضمان الاجتماعي والإنفاق على الصحة، وذلك ببساطة لأنهم يعتمدون على التأمين الصحي لدى الشركات الطبية الخاصة. كذلك، يقول تحليل أجراه مركز بيو للأبحاث في العام 2022 إن الطبقة المتوسطة، التي كانت ذات يوم الطبقة الاقتصادية ذات الأغلبية الواضحة في أميركا، تراجعت بشكل مطرد في العقود الخمسة الماضية. وانخفضت نسبة البالغين الذين يعيشون في أسر الطبقة المتوسطة من 61% في عام 1971 إلى 50% في عام 2021، وفقًا للتحليل. 

المساهمون