اتسعت فوضى الأسواق في السودان، والتي أدت إلى موجات غلاء متتالية، ما دفع مراقبين إلى إعادة الحديث مرة أخرى حول ضرورة مراجعة سياسة التحرير الاقتصادي التي يطبقها السودان منذ سنوات، بل ونادى البعض بإلغائها تماماً خلال المرحلة الحالية.
وأقر مدير عام التجارة الداخلية في وزارة التجارة والتموين، الفاتح عبد الله، في تصريحات صحافية مؤخراً، بوجود انفلات كبير في أسعار السلع في السوق من قبل التجار. وعزا ذلك إلى سياسة التحرير الاقتصادي المتبعة في الدولة، إضافة إلى ضعف آليات الرقابة على الأسواق نتيجة ضعف ميزانية التسيير المخصصة للعمل.
وتمثلت أبرز تبعات سياسة تحرير الاقتصاد في خروج الدولة كليا من السوق، إذ يصف خبراء اقتصاد هذا الخروج بالمنطقي، ولكنهم يؤكدون أنه من غير المنطقي "غياب الرقابة" على الأسعار في الأسواق، مع قصور دور الجهات والوزارات المختصة.
وبرأ الجهاز القومي لحماية المستهلك، على لسان رئيسه نصر الدين شلقامي، وزارة التجارة والتموين، من مسؤولية ما يحدث في الأسواق من انفلات للأسعار، مرجعاً ذلك إلى سحب صلاحيات وزارة التجارة بشأن ضبط السوق ومنع الاحتكار.
وحمّل وزارة المالية مسؤولية غلاء الأسعار التي تضرب الأسواق حاليا، وطالب بإعادة صلاحيات وزارة التجارة والتموين وتفعيل قوانين حماية المستهلك ومنع الاحتكار، قائلاً إن إرجاع الصلاحيات سيمكّن الوزارة من فرض سيطرتها على الأسواق وتحديد أسعار تأشيرية للسلع المستوردة والمحلية.
ممارسات احتكارية
وبسبب انتهاج الحكومة سياسة التحرير، سيطرت فئة قليلة من التجار والنافذين على مفاصل العمل التجاري، وفقا لاقتصاديين.
وتفشّت الممارسات الاحتكارية في السلع الرئيسية مثل السكر والإسمنت ومواد البناء ونسبة لا يستهان بها من قطاعات الاستيراد والتصدير. ويرى خبراء اقتصاد أن سياسة التحرير فشلت في السودان وتسببت في ارتفاع الأسعار لعدم وجود رقابة، قائلين إن التحرير لا يعني الفوضى الحالية.
وطالبوا بمراجعة التجربة في ظل تقاعس الجهات المختصة عن القيام بدورها. وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي، عبد الله الرمادي، لـ"العربي الجديد"، إن سياسات التحرير الاقتصادي هي السبب في كل ما يعانيه الاقتصاد من تردٍ طوال السنوات الماضية.
وقدم مقترحا للحكومة بإلغاء سياسة التحرير كليا، حال كانت جادة في معالجة المشكلات الهيكلية التي يعاني منها منذ عقدين، مؤكداً أن إلغاءها يعتبر أول خطوة في بداية طريق حل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها البلد.
وبيّن أن مشكلة الاقتصاد السوداني نشأت بموجب إجراء تم بناءً على سياسة التحرير وهو "الخصخصة"، لافتا إلى أن ذلك أدى إلى فقدان الحكومة مؤسسات منتجة وحيوية، مثل الخطوط الجوية السودانية "سودان إير"، والخطوط البحرية، والسكك الحديدية، والنقل النهري، وحل التعاونيات التي كانت توفر السلع للمستهلكين في الأحياء ومواقع العمل بأسعار زهيدة، وتمكين فئات قليلة من التجار من السيطرة والتحكم في الأسعار.
رأسمالية متوحشة
الخبير الاقتصادي تيسير إبراهيم، وصف سياسة التحرير الاقتصادي بالسياسة المتطرفة، والتي تدعو إلى رأسمالية متوحشة تتحدث عن التحرير الكلي والمطلق الذي لا يحدّه شرع ديني أو أخلاقي أو اجتماعي أو حكومي.
وقال إن السياسة بُنيت على وصفة صندوق النقد الدولي، وهي عبارة عن خطاب نوايا يوقّع عليه وزير المالية بالإنابة عن الحكومة، هو خطاب سري وتنفذ كل بنوده على الاقتصاد، والتي يمكن إجمالها في التحرير الشامل والخصخصة، إلى جانب تحرير تجارة الصادر والوارد من غير تحكّم الدولة، وتحرير العملة، وتخفيض الأجور والإنفاق الحكومي.
وأكد أن تطبيق السياسة أدى إلى نتائج مزعجة وكارثية في المجال الاقتصادي وعجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، إضافة إلى ارتفاع معدل الوارد وتراجع معدل الصادر، مما نتج عنه انفتاح في السوق واختفاء القدرة التنافسية للسلع المحلية وأغلقت المصانع بسبب المنافسة الحرة.
وأضاف أنه في ما يتعلق بالجانب الزراعي، فإن هناك ضررًا كبيرًا لحق بالمشروعات الزراعية الكبرى والتي تحطمت تماما بسبب تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي، فبيعت السكة الحديد والمخازن التابعة لتلك المشاريع وتسريح العمالة، وبدأت الدولة تتبنى مشروعات صغيرة وتسند المشروعات الكبيرة لجهات خارجية جعلت من السودان سوقًا للبيع والشراء.
وقال إبراهيم إن الدولة لجأت إلى التراجع عن سياسة التحرير، ولكنه تراجع جزئي تحت وطأة الضائقة المعيشية التي يعاني منها المواطنون، مطالباً بضرورة مراجعة كل السياسات المالية والاقتصادية، لا سيما سياسة تحرير الجنيه باعتبارها الأسوأ، إضافة إلى اللجوء إلى سياسة متوازنة ومحاربة الربا والاحتكار، خاصة الشركات العابرة للقارات والتي انتشرت في السودان وقامت باحتكار السلع.
تكثيف الرقابة
في المقابل، يرى الاقتصادي السوداني محمود إسحاق، أن الأمر ليس بالضرورة في أن نعود عن سياسة التحرير، بقدر ما يرجع الخلل إلى عوامل أخرى، منها قصور الرقابة وجشع التجار واستغلالهم لخروج الدولة من السوق في وضع تسعيرة تخضع لأمزجتهم.
وقال إسحاق لـ"العربي الجديد" إن هذه الفوضى تحتاج إلى تكثيف الرقابة على الأسواق وإلزام المحال التجارية بوضع ديباجة على السلع تحدد السعر، والتوسع في إنشاء مراكز البيع المخفض وتنشيط التعاونيات في الأحياء ومواقع العمل لتوفير السلع الاستهلاكية للمواطنين بسعر المصنع، مع تكفّل الحكومة بمصروفات النقل والتكاليف التشغيلية لهذه المواقع وإعفائها من الرسوم والجبايات، لضمان وصول السلع للمستهلكين بأقل الأسعار.
ويقول الخبير الاقتصادي بشير آدم، لـ"العربي الجديد"، إنه لا توجد سياسة تحرير اقتصادي مطلقة كما يحدث في السودان حتى في الدول الكبرى، وإنما توجد قيود ومراجعات من وقت لآخر.
وقال إن سياسة التحرير المطلق فتحت باب الاستيراد على مصراعيه في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
ودعا إلى معالجة آثارها التي أجملها في ارتفاع نسبة التضخم وسعر الدولار والسلع، إضافة إلى وجود فجوة في الميزان التجاري.
وطالب بإيجاد ضوابط لتقليل السلبيات التي خلفتها. وطبقت سياسة التحرير الاقتصادي في السودان في عام 1990 في بواكير عهد حكومة الإنقاذ.
ورغم انتقادها إلا أن وزير المالية في ذلك العهد عبد الرحيم حمدي دافع عنها بشدة. وقال إن المؤسسات المالية الإقليمية والدولية بدأت في تطبيع علاقاتها مع السودان، بعد أن تأكدت من جدية الحكومة في تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي.