من أخطر سلبيات الإعلام، والموجّه منه خاصة، أنه يرقمن الإنسان، فتشاهد أو تقرأ، استشهاد 50 فلسطينياً جراء غارة إسرائيلية على مدينة رفح، أو بلغ عدد الشهداء في غزة منذ السابع من أكتوبر 32 ألفاً. من دون تفصيل من هم الشهداء أو كيف استشهدوا ولماذا؟! ما يوصل المتلقي، بواقع الزخ المتواصل، للتسطيح، أو اعتياد سماع أنباء القتل من دون أن يبقى بذهنه سوى الرقم.
رغم أن بعض الأفعال تكون نتائج لا مقدمات، فحين تسمع قتل تحت التعذيب أو مات جوعاً، فهناك حيوات عاشها المقتول قبل أن يُقتل تعذيباً، وميتات سرت بجسم الآخر وأماتته تباعاً قبل أن يموت جوعاً.
ومجرد ترك المجال للمخيلة لتتفكّر في ما عاشته الضحية قبل بلوغ الموت، والذي على الأرجح تشهته كثيراً لتهرب من التعذيب أو الجوع، سنكون أمام ضرورة ثورات مركبة، تبدأ على صياغة الأخبار ولا تنتهي عند أماني اقتلاع المستبدين بالمنطقة العربية الذين ساهموا، بطريقة أو بأخرى، بالقتل جوعاً وتعذيباً وقهراً.
ويزيد من وجع فعل مات جوعاً إن تطرق الخبر للمفعول به، فوقع موت أطفال جوعاً أكثر تأثيراً وإيلاماً، رغم أن القتل جريمة أياً كان المقتول أو طريقة القتل، والذل والعار جراء المشاركة أو حتى الصمت، تلاحق أقطاب الديمقراطية والداعمين للقتلة مهما تلوّن إخراج الحدث والتلاعب على بنيته ولغته، ولن يمحو التاريخ ذلهم، أياً كانت نهاية آخر حروب الكرامة والحق بغزة.
قصارى القول: بالوقت الذي تضاعف الإنفاق العربي، جراء فورة أسعار النفط وفوائض الموازنات، على الرياضة والترفيه والاستثمار الخارجي، تتزايد أخبار الموت جوعاً في الأراضي الفلسطينية.
والوزر ليس استهتار إسرائيل بالقوانين وواضعيها، أو تقاعس وتخاذل دولي فحسب، بل قصدية عربية ممن يغلقون المعابر نحو غزة أو يتهافتون لإقامة جسر بري لئلا ينقص معروض السلع الكمالية بدولة الاحتلال، أو يعينون الكيان الصهيوني على الحصار والتجويع.
بيد أن تتالي وفيات الأطفال بالمشافي، بسبب سوء التغذية، كما حدث بمشفى "كمال عدوان" أمس، وارتفاع عدد قتلى التجويع بسائر قطاع غزة، هي سابقة لم يقترفها سوى نظام بشار الأسد خلال تجويعه أهل الغوطة ومضايّا وحمص عام 2013.
والذي، نهج الأسد والصمت الدولي على جرائمه، سنّ طرائق وفتح أبواب إبادة وصلت للقتل بالأسلحة الكيميائية، شجعت إسرائيل لتوغل وتبتكر، والعالم، بما فيه دول الطوق الشقيقة، يصمت ويتآمر ويشارك بقتل الأطفال جوعاً.
نهاية القول وجعان، الأول يتجلى بالذل الذي وصل إليه حكام المنطقة العربية وهم يرون خانعين، الحصار والقتل جوعاً، ولم يتفتق عن مخيلاتهم ورجولتهم سوى رمي سلل ذلهم الغذائية من الجو، على أصحاب كرامة وعزة يصححون مسيرة تاريخ المنطقة وليس تعريّة وهم إسرائيل فقط.
بل ويتشاركون بخديعة الإنزال الغذائي مع الولايات المتحدة التي ترمي بيد سلل تآمرها الغذائية لامتصاص امتعاض الشارع الأميركي قبيل الانتخابات، وبأخرى الأسلحة لتستمر المقتلة والإبادة بحق الفلسطينيين، إذ 98% من الأسلحة التي جرى إلقاؤها على قطاع غزة هي أميركية الصنع.
والوجع الثاني يكمن بارتفاع نبرة المتاجرة، عربياً وإقليمياً، بجوع وحصار أهل غزة على المنابر وخلال اللقاءات، في حين يساهم جلهم عملياً، بتنفيذ خطة وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت لقطاع غزة التي أعلنها باكراً منذ 9 أكتوبر/ تشرين الأول "لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق.. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك".
لم يفكر هؤلاء الآثمون بما يسطره التاريخ، وما يتراكم بأنفس الشعوب، أو بالذي عاناه ويعانيه الجوعى في غزة وهم يشتهون الموت ليتخلصوا من مراحل التمويت جوعاً... أو ماذا سيقولونه لله، كما توعد الطفل السوري قبل ثمانية أعوام نظام بشار الأسد "سأخبر الله بكل شيء".