يفرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شروطه لإحياء اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، مستغلاً في ذلك تعاظم المخاوف العالمية من انحسار الإمدادات الدولية من السلع الغذائية الرئيسية بفعل التغيرات المناخية والأعاصير التي تؤثر على دول منتجة كبرى وحظر التصدير الذي تبنته دول مصدرة حفاظاً على مستويات الأسعار المحلية.
وأكد الرئيس الروسي أنه لن يعيد إحياء الاتفاق المدعوم من الأمم المتحدة والذي خفف حدة أسعار الغذاء العالمية من خلال السماح لأوكرانيا بشحن حبوبها عبر البحر الأسود، ما لم تُرفع العقبات التي تعترض الصادرات الزراعية الروسية. جاء رد بوتين بعد اجتماع استمر ثلاث ساعات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتجع سوتشي الروسي، الاثنين الماضي.
وكان أردوغان، الذي توسط في المبادرة الأصلية لحبوب البحر الأسود في عام 2022، يأمل في الانتهاء من المحادثات من خلال إطار جديد للمفاوضات لتقديمه إلى قادة العالم المجتمعين في قمة مجموعة العشرين في الهند في وقت لاحق من الأسبوع الجاري.
وسيشارك الرئيس التركي في قمة مجموعة العشرين في الهند يومي التاسع والعاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري قبل أن يحضر الجمعية العامة للأمم المتحدة في الفترة من 18 إلى 26 من الشهر نفسه في نيويورك.
ونقلت وكالة الأناضول، أمس الثلاثاء، عن أردوغان قوله للصحافيين على متن الطائرة، لدى عودته من روسيا، إن بلاده على اتصال وثيق مع الأمم المتحدة بشأن مبادرة إحياء اتفاق الحبوب وإنه سيناقشها مع الأمين العام للمنظمة أنطونيو غوتيريس على هامش أعمال الجمعية العامة التي تعقد هذا الشهر.
وقال إن لدى موسكو طلبين في ما يتعلق بمبادرة الحبوب، الأول يتمثل في ربط البنك الزراعي الروسي بنظام سويفت للمدفوعات الدولي، والثاني تأمين السفن المستخدمة بالنقل. وأضاف أن موسكو تقدم هذين المطلبين بوصفهما "ضروريين" لإعادة إحياء الاتفاق وأن بوتين أخبره بأنه لن يتخذ أي خطوات حتى "توفي أوروبا بالوعود التي قطعتها لي"، معربا عن اعتقاده بإمكانية التوصل إلى حل قريباً.
وتسعى تركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي إلى إقناع روسيا بالعودة إلى مبادرة حبوب البحر الأسود التي توسطت فيها أنقرة والأمم المتحدة العام الماضي. وانسحبت موسكو من المبادرة في يوليو/ تموز من هذا العام، لتنهي سريان الاتفاق الذي سمح بتصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية لمدة عام بشكل آمن وسط الحرب.
واتهم بوتين الغرب بـ"عرقلة" صادرات روسيا من المنتجات الزراعية والأسمدة، فيما اتهم أوكرانيا باستغلال الممرات الإنسانية لتنفيذ "هجمات إرهابية" على المنشآت العسكرية والمدنية. وصرّح بوتين بتوجّه 70% من الحبوب الأوكرانية إلى البلدان المتطورة، مؤكداً عدم وجود مشكلة في إنتاج المواد الغذائية، بل في توزيعها حول العالم.
وكشف الرئيس الروسي أيضاً عن رغبتهم في إرسال قرابة مليون طن من الحبوب إلى تركيا بـ "أسعار مميزة" على أن تتم معالجتها هناك بتمويل قطري قبل شحنها إلى الدول المحتاجة، بحسب وصفه. لكن المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري، نفى وجود دور قطري في اتفاق الحبوب. وقال الأنصاري في معرض رده على أسئلة الصحافيين خلال الإحاطة الإعلامية الأسبوعية، أمس الثلاثاء إن "ما يتم تداوله بهذا الشأن غير دقيق". وأضاف إن "قطر تدعم العودة إلى اتفاق الحبوب السابق".
عدم اليقين بشأن مستقبل الإمدادات
وساهمت حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الإمدادات من أحد أكبر مصدري الحبوب في العالم في تقلبات استمرت لأسابيع بأسعار القمح عالمياً، وكذلك تصاعد الأعمال العدائية في البحر الأسود وحوله. وشنت روسيا موجات من الهجمات بطائرات بدون طيار على منطقة أوديسا الجنوبية في أعقاب الانسحاب من اتفاق التصدير، مما ألحق أضراراً بالمخازن والمنشآت الصناعية وكذلك المعدات الزراعية. كما استهدفت ميناءين نهريين يشكّلان طرق التصدير البديلة الرئيسية إلى البحر الأسود.
وقال إيهور جوفكفا، نائب رئيس الأركان الأوكراني لتلفزيون بلومبيرغ الأميركي إن بلاده كانت تعتمد على تركيا في مسألة دعم إحياء صفقة الحبوب، وأنها مستعدة لتصديرها إلى الدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا، مضيفا أن "المحاصيل في أوكرانيا هذا العام جيدة جداً.. لذلك نحن مستعدون.. العالم يعاني عندما تستخدم روسيا أدوات عدوانية في مجال الأمن الغذائي".
لكن بوتين قال، الاثنين، إنه بمجرد تنفيذ جميع الاتفاقات المتعلقة برفع القيود المفروضة على تصدير المنتجات الزراعية الروسية، سنكون مستعدين للنظر في إمكانية إحياء صفقة الحبوب.. سنفعل ذلك على الفور".
وبجانب تسهيل صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة التي تضررت مع ابتعاد البنوك وشركات التأمين وشركات الشحن عن التعامل مع المنتجات الروسية، تريد روسيا أيضاً إعادة فتح خط أنابيب الأمونيا الذي يمر عبر أوكرانيا، وإعادة ربط بنك "روسلخوزبنك" المملوك للدولة والذي يركز على الزراعة، بنظام "سويفت" للمدفوعات الدولية.
وعملت الأمم المتحدة التي لعبت دوراً مهماً في التوصل إلى الاتفاق الأساسي بشأن تصدير الحبوب، بشكل وثيق مع بنوك القطاع الخاص وشركات التأمين، في محاولة لمعالجة مخاوف روسيا، حيث أرسل الأمين العام للأمم المتحدة مؤخراً إلى موسكو، اقتراحاً منقحاً قال إنه يمكن أن يشكل الأساس لاتفاق جديد.
وقال غوتيريس للصحافيين في نيويورك، الخميس الماضي: "لا يمكن أن نكون أمام مبادرة للبحر الأسود، تنتقل من أزمة إلى أخرى ومن تعليق إلى تعليق.. نحن بحاجة إلى شيء ناجح ويعمل لمصلحة الجميع".
وأدى انهيار صفقة الحبوب في البحر الأسود والضربات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية إلى تجديد التهديد للأمن الغذائي في العالم، حيث تضغط موسكو من أجل الحصول على حصة أكبر من صادرات الحبوب العالمية، فضلا عن الحصول على عوائد أكبر.
وتعد روسيا بالفعل أكبر مصدّر للقمح في العالم، حيث أنتجت محصولًا قياسيًا للحبوب في موسم 2022-2023، مما أدى إلى إنتاج حجم أكبر بنسبة 23% مما كان عليه في المتوسط في السنوات الخمس السابقة. ومن المتوقع أن ينتج أقل بقليل في العام المقبل، لكنه لا يزال محصولًا وفيراً. ومن المرجح أن يمنح هذا الإنتاج الوفير موسكو 60 مليون طن للتصدير في العامين الجاري والمقبل، وهو أكثر بكثير من المعتاد، وفقًا للأرقام الصادرة عن مؤسسة "ستاندرد آند بورز" العالمية.
أجواء غير مواتية لأسواق الغذاء العالمية
وتتزامن الضغوط الروسية مع أجواء غير مواتية لأسواق الغذاء العالمية. إذ تنتقل عدوى الخوف من شح إمدادات الحبوب لا سيما القمح، إلى الأرز وسلع أخرى. ويهدد إعصار "هايكوي" محاصيل الأرز في الصين، ما يهدد إنتاج الحبوب الأساسية الأكثر استهلاكاً في البلاد.
فقد توقع المركز الوطني للأرصاد الجوية في الصين أن تضرب الأمطار الغزيرة الناجمة عن الإعصار أجزاءً من مقاطعات فوجيان وقوانغدونغ وجنوب جيانغشي، هذا الأسبوع. وتعتبر الأمطار المتوقعة الأحدث في سلسلة موجات الطقس المتطرف التي ضربت الصين هذا الصيف، حيث أودت الفيضانات في شمال البلاد بحياة العشرات من السكان وقضت على المحاصيل الزراعية في البلاد.
ويأتي التهديد الذي تشهده محاصيل الأرز في الوقت الذي تضيّق فيه الهند، أكبر دولة مصدرة للأرز، والطقس القاسي الإمدادات على مستوى العالم مع ارتفاع الأسعار في آسيا إلى أعلى مستوى لها منذ 15 عاماً. وقد يتسبب أي خفض كبير في الإنتاج في الصين، وهي أكبر دولة منتجة ومستوردة، بالمزيد من الاضطرابات في الأسواق.
وشهدت الهند معدل أمطار في أغسطس/آب الماضي هو الأدنى منذ عام 1901، مما أثار مخاوف بشأن ضعف إنتاج المحاصيل واحتمال فرض المزيد من القيود على الصادرات بعد القيود التي فرضتها الدولة الواقعة في جنوب آسيا على صادرات الأرز.
وتلقت البلاد 162.7 ملم من الأمطار هذا الشهر، أي أقل بنسبة 36% من المعتاد، وفقاً للبيانات التي جمعتها إدارة الأرصاد الجوية الهندية. كما تظهر الأرقام أن إجمالي هطول الأمطار خلال شهري يونيو/حزيران وأغسطس/آب كان أقل بنسبة 10% من المتوسط.
وتروي الأمطار الموسمية حوالي نصف الأراضي الزراعية في الهند، وهي ضرورية لمحاصيل مثل السكر وفول الصويا. أضر الطقس غير المنتظم ببعض المحاصيل منذ العام الماضي، ما أجبر البلاد على تقييد صادراتها من القمح والأرز لتهدئة تضخم الأسعار المحلية التي ارتفعت إلى أعلى مستوى لها في 15 شهراً في يوليو/تموز. كما فرضت الحكومة قيوداً على المخزون على بعض المحاصيل.
وقد يضع أي تراجع في إنتاج القمح والأرز والسكر في ثاني أكبر دولة منتجة في العالم مزيداً من الضغط على إمدادات الغذاء العالمية ويزيد أسعار السلع الأساسية.
الأغنياء أيضاً خائفون
ولا تقتصر المخاوف من صعود الأسعار على الدول الفقيرة، وإنما يزداد قلق الدول الغنية لا سيما أوروبا والولايات المتحدة التي طالما راهنت على هبوط الأسعار في الأشهر الماضية لكبح التضخم الذي لا يزال مرتفعاً، وهو ما يعرقل عودة النمو الاقتصادي ويجبر الحكومات على زيادة سعر الفائدة، خاصة على الدولار واليورو.
وتُظهر بيانات منظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو)، بين فبراير/شباط 2023 ومايو/أيار في العام الجاري، ارتفاعًا في تضخم أسعار المواد الغذائية في معظم البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. حيث ارتفع التضخم عن 5% في نحو 63.2% من البلدان منخفضة الدخل و79.5% من البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى و67% من البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى.
بالإضافة إلى ذلك، تعاني 78.9% من البلدان مرتفعة الدخل من تضخم مرتفع في أسعار المواد الغذائية. وحسب "فاو"، تجاوز تضخم أسعار المواد الغذائية التضخم الإجمالي في 80.1% من 166 دولة حول العالم.
وحسب بيانات البنك الدولي، فإن السلع الأكثر تضرراً من الحرب الروسية في أوكرانيا هي القمح والذرة إلى حد ما وزيوت الطعام والأسمدة. وأشار تقرير للبنك نهاية يوليو/تموز الماضي، إلى إن القمح هو السلعة الأساسية التي تأثرت بالحرب، حيث يعتمد حوالي 35% من سكان العالم على هذه السلعة، باعتبارها العنصر الأساسي في النظام الغذائي.
ولفت التقرير إلى أن المشكلة تكمن في أن البلدان التي اعتادت الاستيراد من أوكرانيا، عليها الآن أن تتكيف مع الوضع الجديد ولن يكون هذا أمراً سهلًاً وسيكون مكلفًا للغاية. وباتت السفن المغادرة من أوكرانيا عبر البحر الأسود مضطرة للبحث عن طرق بديلة لنقل الحبوب على وجه الخصوص، نظرا إلى أن خطر التعرّض للقصف جعل تأمينها أمراً شبه مستحيل.