ضاقت أزمات العيش على المصريين واستحكمت حلقاتها، ما دفع معظمهم إلى الهروب منها عبر حلول رخيصة يسترون بها أوضاعهم المتردية، ومن هنا تلقفتهم أسواق البالة للملابس المستعملة التي أصبحت لها شهرة واسعة في أوساط المواطنين.
ويأتي ذلك في وقت تصاعدت فيه تحذيرات صندوق النقد الدولي من تواصل تدهور الاقتصاد المصري في ظل تصاعد الأزمات المالية الخانقة التي أجبرت الحكومة على مزيد من الاقتراض لتخفيف حدتها، ولكنها في المقابل اندفعت نحو تطبيق إصلاحات اقتصادية مرة فاقمت معيشة المواطنين.
اندفعت الأسر المصرية محدودة الدخل والفقيرة، نحو أسواق "البالة" للملابس المستعملة وبواقي المصانع إذ تعد الملاذ الآمن لهم، لتدبير الملابس، بأسعار في متناول اليد.
وأصبحت هذه الأسواق في الآونة الأخيرة، بوابة "ستر البيوت" وإدخال السرور على الأطفال، لأبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تتعرض لضغوط مالية خطيرة، تدفعها إلى توجيه جل دخولها، لتدبير نفقات الطعام والتعليم، وما يتبقى لشراء الملابس من بقايا المصانع أو أسواق "البالة" التي أصبحت لها شهرة واسعة بين المواطنين.
وعلى أعتاب أعياد المسيحيين والمسلمين في مصر، صدرت تعليمات من البنك المركزي للبنوك مؤخراً، بوقف العمليات الاستيرادية لـ 13 مجموعة سلعية أيا كان مبلغها.
شملت القائمة السيارات تامة الصنع والمفروشات والأثاث والفواكه الطازجة، ومعدات النقل الثقيلة، والإطارات المستعملة واللؤلؤ والمجوهرات والهواتف النقالة وكمالياتها، والملابس الجاهزة وأي شيء مستعمل.
واكب ذلك، ما شهدته أسواق العملات من تراجع في قيمة الجنيه المصري، بأكثر من 16%، وملاحقة وزارة المالية، للباعة الجائلين وتجار التجزئة، لضمهم قسرا، إلى الاقتصاد الرسمي.
دفعت الضغوط الثلاثية، سوق البالة إلى الارتفاع، مع دخول موسم الشراء في مرحلة الذروة السنوية، التي ينتظرها الجميع. قفزت أسعار الملابس المستعملة ما بين 15% إلى 30%، في الوقت الذي شهدت فيه أسعار الملابس الجاهزة المحلية، زيادة بلغت 20%، متأثرة بارتفاع أسعار الأقطان ورسوم الشحن، ونقص الخامات، التي تأتي من الهند والصين، مع ارتفاعها، بنحو 30%، كما يذكر جمال مناع نائب رئيس شعبة الملابس بغرفة القاهرة التجارية.
تدهور الاقتصاد
يأتي اندفاع المصريين نحو حلول رخيصة لأزماتهم المعيشية ومنها شراء الملابس المستعملة بدلا من الجديدة، وسط تعرض الاقتصاد لأزمات خانقة انعكست سلبا على المواطنين، إذ أكدت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، أول من أمس، أن أوضاع الاقتصاد المصري في تدهور، واعتبرت أن مصر بحاجة إلى الاستقرار مالياً ومواصلة الإصلاحات مع البرنامج التابع لصندوق النقد الذي يحمي الفئات الضعيفة.
وتجري مصر محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج دعم يمكن أن يندرج تحت "خط احترازي" وقد يصل إلى 3.5 مليارات دولار.
وفي إطار محادثات الربيع للصندوق والبنك الدوليين الثلاثاء الماضي، قال مستشار مالي ومدير إدارة أسواق النقد ورأس المال في صندوق النقد، توبياس أدريان، إن "ارتفاع احتياجات التمويل الخارجي، وارتفاع التضخم، ومحدودية الحيز المالي تشكل عوامل لها تأثير على مصر، على الرغم من أن البلاد اتخذت إجراءات لتثبيت حساباتها الخارجية في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك خفض قيمة الجنيه المصري ورفع 100 نقطة أساس للفائدة، ولكن لا تزال هناك مخاوف كبيرة تحتاج بالتأكيد إلى إدارتها".
وانعكس تدهور الاقتصاد على المصريين سلباً إذ زادت معدلات الفقر بشكل متسارع، حيث يعيش نحو 60% من السكان تحت خط الفقر حسب تقارير دولية، أما الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري (حكومي) فيقدرها بنحو 28%.
بداية أسواق البالة
عرف المصريون سوق "البالة"، منذ عام 1977، عندما تحولت مدينة بور سعيد إلى منطقة للتجارة الحرة، حيث بدأ بعض السماسرة، جلب الملابس المستعملة التي يتبرع بها مواطنو الدول الغربية للكنائس والجمعيات الخيرية، التي بدورها، تبيعها للسماسرة، لتدبير مواردها المالية.
وتنتشر تلك التجارة في سورية وتونس وعديد من البلدان العربية، بينما دخلت على استحياء إلى بورسعيد، ببيع المعاطف والملابس الشتوية، غير المتوافرة في السوق المحلية، بما نشرها بين المستهلكين، الذين خبروا جودتها وأسعارها الزهيدة.
تحولت أسواق البالة في بورسعيد إلى مزار، تسعى إليه كافة الطبقات، خلال ثمانينات القرن الماضي، مع تطبيق أول برنامج اقتصادي مع صندوق النقد، قفز بسعر الدولار، ورفع التضخم، إلى نحو 18% سنويا، مع حظر التوظيف في المؤسسات العامة، بما دفع البلاد إلى حالة من التقشف، وأشعر الناس بأزمة مالية خانقة، جعلتهم يبحثون عن الملبس الرخيص.
وباتت أعمال السماسرة تجارة رسمية، بعد موافقة الحكومة على منح تجار الملابس المستعملة بطاقة استيرادية خاصة، أسوة بتجار الملابس الجاهزة.
بدأت رابطة مستوردي الملابس المستعملة، بعدة شركات، فأصبحت شُعَباً بغرفة تجارة الملابس، يعتبرها البعض تمثل 40% من حجم تجارة الملابس الجاهزة في مصر.
منافذ التهريب والتخزين
توجد مبالغة في تقديرات واردات الملابس المستعملة، مع غياب الأرقام الرسمية عن كمياتها وقيمة هذه الملابس التي تشترى وتباع بالطن المتري لدى التجار، والكيلو غرام لصغار الموزعين، وانتشرت عمليات تهريبها عبر منافذ عديدة في بورسعيد والقنطرة وبور فؤاد، إذ تأتي من إيطاليا وسويسرا وبلجيكا وهولندا والولايات المتحدة.
ويعيد تجار من باكستان والهند، إرسال كميات كبيرة من ملابس البالة، من داخل المناطق الحرة وبواقي أسواق الخليج، في الامارات، للأسواق المصرية عبر النقل البري وميناء العين السخنة.
التوسع الكبير في أسواق " البالة"، يبين مدى أهميتها الكبيرة للمصريين، فقد انتشرت في السنوات الأخيرة، أسواق للجملة، في منطقتين راقيتين بجنوب وشرق العاصمة بالمعادي، ومدينة نصر، بالإضافة إلى مخازن واسعة في شبين القناطر، شمال القاهرة، وامتدت إلى مدن الصعيد، والدلتا بالمحلة الكبرى، معقل صناعة الغزل والنسيج بالدولة، بالإضافة إلى أسواق خالد بن الوليد في الإسكندرية.
ويعد سوق " وكالة البلح"، الذي أصبح مهددا بالإزالة، بعد بناء مشروع عمارات ماسبيرو وسط العاصمة، الملاذ الأكبر أمام مستهلكي الملابس المستعملة.
بطاقات استيراد السلع المستعملة
تظل محافظة بورسعيد صاحبة اليد الطولى في تجارة البالة، حيث يحمل تجارها 46 ألف بطاقة استيرادية، للملابس المستعملة، و70 ألف بطاقة للملابس الجديدة.
يبرر التجار انتشار بيع الملابس المستعملة في مصر بالحالة الاقتصادية المتراجعة، فكلما زادت الأسعار وانخفضت قيمة الجنيه، خفّت قدرة المصريين على شراء حاجاتهم الأساسية، ولجأ الناس إلى ستر أنفسهم بالملابس الرخيصة.
يحلو لتجار بورسعيد الدفاع عن تجارتهم، بتأكيدهم أن ملابس البالة، في أغلبها "استوكات" أي بواقٍ لماركات من الملابس ومحلات كبرى في أوربا وأميركا والخليج، حيث يفضل أصحاب تلك الشركات بيع الملابس الراكدة بالطن، بعد مواسم التخفيضات.
يتولى التجار إعادة تصنيف تلك الملابس، وتحميلها في "بالات" (أجولة كبيرة) تزن كل منها 50 كيلو غراما، وتشحن إلى الموانئ المصرية، ومنها إلى الأسواق بالمحافظات.
يشير أحد تجار التجزئة بوكالة البلح، محمود عبد الله، إلى تصنيف "البالات" إلى عدة فئات، الأولي منها، لبواقي الملابس غير المستعملة، والثانية للملابس المستعملة الجيدة التي تحمل علامات لماركات ملابس عالمية شهيرة، تطلبها عادة الأسر من الطبقات المتوسطة، والمشاهير الباحثين عن ملابس ذات ماركة عالمية بأسعار رخيصة.
تٌباع الفئة الثالثة التي بها عيوب فنية، أو مختلفة المقاسات والطرز، بالكيلو للموزعين والجمهور.
ويؤكد عبد الله لـ"العربي الجديد" أن الملابس المستعملة، تمر بمرحلة الفرز قبل وصولها للبلاد، ويعاد فرزها مرة أخرى بعد خروجها من الجمارك، مع غسلها وتعقيمها، قبل عرضها بالمحلات، حيث تشترط الحكومة تلك الإجراءات الصحية، حتى لا تساهم في نقل الأمراض.
ويشير إلى أن حركة البيع شهدت في العامين الآخرين تراجعا، مع انتشار وباء كورونا، لخوف الجمهور من دخول الأسواق الشعبية، بما دفع التجار إلى التوسع في إقامة محلات للبيع، عبر المزادات، والتجزئة، في أحياء كثيرة، مثل حدائق الأهرام والملك فيصل بالجيزة، وشبرا، ومدينة نصر.
حملات تسويقية على مواقع التواصل
نظمت المحلات حملات تسويقية على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضها ينظم مزادات على الهواء مباشرة، عبر فيسبوك، حسب عبد الله الذي أكد أن أغلب الأسر مازالت تفضل الشراء من المحلات مباشرة، حتى تفرز المنتج وتجربه، للتأكد من صلاحيته وتناسب مقاساته للمستهلك.
تحولت تجارة الملابس المستعملة إلى مصدر مالي للدولة، التي فرضت عليها عام 2018، جمارك قيمتها 40% بالإضافة إلى 14% كضريبة مبيعات، وفي حالة جلبها من تبرعات خيرية، تحدد القيمة جزافيا، وحسب الدولة التي تأتي منها تلك الملابس.
وقرر محافظ بورسعيد، اللواء عادل الغضبان، تحصيل 10% كضريبة محلية على الملابس الجاهزة المستوردة، و15% على الملابس المستعملة عبر ميناء بورسعيد، نهاية عام 2019.
تدهور مصانع النسيج
تعاني مصر من عجز مزمن في توافر الملابس الجاهزة، مع تدهور مصانع الغزل والنسيج منذ عقود، واستمرار الزيادة السكانية، بينما لا يوجد سوى 8 آلاف مصنع للملابس، بها 120 ألف ماكينة حياكة فقط.
يؤكد رئيس غرفة صناعات الملابس الجاهزة والمفروشات باتحاد الصناعات، محمد عبد السلام، أن حاجة السوق المحلي، تدفع المصانع إلى عدم الاهتمام بالتصدير، خاصة أن القدرات الإنتاجية الحالية لا تسمح بتحقيق طفرات تنافس الأسواق الموازية مثل تركيا وبنغلاديش.
ويشير خبراء إلى أن الملابس المصرية التي تصدر للخارج، عبارة عن منتجات منخفضة القيمة، ليس لديها القدرة على منافسة الماركات العالمية، وأن زيادة الصادرات التي بلغت 2 مليار دولار 2021، ترجع إلى التسهيلات التي تمنحها السوق الأميركية للمنتجات المصرية التي تشارك في صناعتها، شركات إسرائيلية ضمن اتفاقية التجارة الحرة "الكويز".
يتعجب تجار البالة من سرعة تدخل رئيس الوزراء الأسبوع الماضي، لتوفير الدولار لاستيراد احتياجات مصانع الملابس الجاهزة، مع استمرار وقف استيراد الملابس المستعملة، التي يعمل بها 100 ألف شخص في بورسعيد فقط، ويحترفها مئات الآلاف، من الشباب بالمحافظات.
يؤكد التجار أن قرار المنع يعد آخر طلقة في طوق النجاة للفقراء الباحثين عن ستر أجسادهم بملابس رخيصة، في ظل عدم قدرة المصانع المصرية على توفير الكساء للجميع وارتفاع الأسعار.
وبينما يشير مصنعو الملابس الجاهزة، إلى وقف بعض المصانع لطاقتها الإنتاجية، خلال موسم الصيف الحالي، بعد تراجع حركة الشراء في الشتاء الماضي، ومحدودية منافذ بيع بواقي انتاج المصانع، وتدهور القدرة الشرائية للمستهلكين، وارتفاع أسعار الخامات.
يؤكد صاحب شركة لتجارة ملابس البالة بالجملة، في شبين القناطر، إبراهيم محمد، لـ"العربي الجديد" لجوء تجار البالة، إلى تحمل أعباء زيادة سعر الدولار، ليتوقف سعر بيع الكيلو في البالة، للدرجة الأولى عند 300 جنيه، وللدرجة الثانية 290 جنيها.
ارتفاع الأسعار
في جولة على الأسواق لـ "العربي الجديد"، لاحظنا أن أسعار الملابس للماركات الفاخرة، من البواقي غير المستعملة، تراوحت ما بين 250 و300 جنيه للقطعة (الدولار = نحو 18.5 جنيها)، بدلا من 200 إلى 150 جنيها نهاية العام الماضي.
يتعجب تجار البالة من سرعة تدخل رئيس الوزراء الأسبوع الماضي، لتوفير الدولار لاستيراد احتياجات مصانع الملابس الجاهزة، مع استمرار وقف استيراد الملابس المستعملة
وارتفعت أسعار الملابس الفاخرة المستعملة من 100 جنيه في المتوسط إلى ما بين 110 إلى 160جنيها. وتراوحت أسعار الملابس للأطفا بين 35 و50 جنيها للقطعة، تنخفض إلى 20 جنيها للقطع المتهالكة، بزيادة تصل إلى 20% عما كانت عليه بداية الشتاء الماضي.
يبدي بائعو التجزئة عدم مخاوفهم من القضاء على أسواقهم، لوجود إقبال شديد من الجمهور، معترفين في الوقت نفسه، بأن وقف الاستيراد، لا يعني قدرة الحكومة على حجب السلعة عن الجمهور، حيث صدرت من قبل، قرارات حظر لاستيراد البالة عدة مرات، مع ذلك لم تتوقف، لوجود مسارات أخرى تمكنهم من دخول الأسواق، تُحمل تكاليفها في النهاية على المستهلك البسيط، الذي يعاني من الغلاء الفاحش.