تمارس النقابات العمالية في تونس سياسة الهدوء الحذر بعد أن فرض عليها الوضع الاقتصادي الصعب للبلاد خفض سقف مطالبها رغم الإقرار بالصعوبات المعيشية التي تدفع بشرائح واسعة من التونسيين العاملين في القطاع الوظيفي إلى خانة الفقر.
ومنذ توقيع الاتحاد العام التونسي للشغل اتفاق الأجور مع الحكومة السابقة برئاسة نجلاء بودن في سبتمبر/ أيلول 2022 لم ترجع النقابة العمالية الأكثر تمثيلا في البلاد إلى المطالبة مجددا بتحسين الرواتب رغم بلوغ التضخم مستويات قياسية أرهقت جيوب المواطنين.
وعام 2022 حصل موظفو القطاع الحكومي على زيادة في الرواتب بنسبة 5 بالمائة على مراحل وقد تم تنفيذ القسط الأول منها ابتداء من شهر إبريل/ نيسان 2023 بينما يجري تنزيل القسط الثاني شهر يناير/ كانون الثاني الحالي على أن يصرف القسط الثالث بداية العام القادم.
في المقابل سجلت البلاد العام الماضي نسبة قياسية في التضخم بلغت بنهاية السنة 9.3 بالمائة ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وتآكل كل موارد الدخل لطبقة الموظفين الذين يعانون نسبة تداين عالية ومستوى أجور لا يتعدى 450 دولارا، وفق أحدث البيانات الرسمية لمعهد الإحصاء الحكومي.
ويرى المتحدث الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل سامي الطاهري أن الأزمة التي تمر بها البلاد ولّدت شعورا لدى بعض فئات المجتمع بصعوبة تقديم مطالب جديدة.
وقال الطاهري في تصريح لـ"العربي الجديد" إن مطالب جرى الاتفاق بشأنها بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحكومات متتالية لم تنفّذ، مؤكدا أن الاتفاقات المعلقة تشمل جل القطاعات.
وأشار الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل إلى أن تعليق اتفاقات أقرتها الحكومية ولّد حالة من الغضب في صفوف العاملين في القطاعات المعنية، مؤكدا أن هيئات إدارية قطاعية انعقدت وستنعقد لتقرير الأشكال النضالية التي ستعتمد مستقبلا من أجل تحقيق ما تعهدت به السلطات ووقعت عليه في محاضر رسمية وملزمة.
وفي ما يتعلق بتقديم طلبات جديدة لتحسين الرواتب، قال الطاهري إن الاتحاد العام التونسي للشغل أبرم اتفاقا مع حكومة نجلاء بودن في سبتمبر/ أيلول 2022 يقضي برفع رواتب الموظفين على أقساط تمتد لثلاث سنوات على أن لا يفسح المجال لمفاوضات جديدة قبل إنهاء صرف الأقساط الثلاثة في غضون عام 2025.
وتابع: "لكن الاتحاد العام التونسي للشغل اتفق أيضا مع الحكومة على جلسات تقييمية سنوية لمتابعة انعكاسات مؤشرات التضخم والأسعار والنمو وإمكانية تدارك تدهور المقدرة الشرائية، لكن الحكومة أغلقت باب الحوار الاجتماعي وهو ما سيعكّر المناخ الاجتماعي وقد يؤدي إلى توترات".
وأضاف: "هناك قطاعات استنفدت كل الحوارات الممكنة على ندرتها والقواعد في حالة غليان سواء في التربية والتعليم أو الصحة أو الفلاحة أو غيرها من القطاعات".
واعتبر الطاهري أن الوعي بالأزمة الاقتصادية لا يعني التسليم بالأمر الواقع وقبول مزيد استنزاف جيوب الأجراء الذين لا يتحمّلون مسؤولية الأزمة بقدر تضررهم منها.
يحاصر الغلاء وضعف الرواتب موظفي تونس حيث كشفت بيانات رسمية لمعهد الإحصاء الحكومي أن معدل الرواتب الشهرية لنحو 670 ألف تونسي يعملون في القطاع الحكومي لا يتجاوز 1387 دينارا للفرد، ما يعادل 450 دولارا شهريا ينفقون 40 بالمائة منها على الأكل والتنقل.
وأبرزت الدراسة الصادرة عن معهد الإحصاء أن حجم الزيادات في الرواتب التي حصل عليها الموظفون خلال الفترة الممتدة ما بين 2015 و2022 تقدر بقيمة 471 دينارا أي نحو 150 دولارا.
ورغم تأثيرات الأزمة على الواقع المعيشي للتونسيين كشفت بيانات أصدرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية تراجعا مهما في وتيرة الاحتجاجات من أجل مطالب مهنية أو معيشية خلال عام 2023، حيث جرى رصد 3437 احتجاجا على امتداد العام الماضي مقابل 7817 احتجاجا عام 2022 و12079 احتجاجا سنة 2021.
ويفسر المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، تراجع الاحتجاجات المنظمة من قبل الهياكل النقابية بتأثير توقيف وسجن مسؤولين نقابيين خلال العام الماضي، مؤكدا أن المطالب الاحتجاجية بشكليها النظامي وغير النظامي تنتعش في المناخ الديمقراطي الذي يسمح للتنظيمات النقابية والاجتماعية بالنضال دون تضييق.
وقال بن عمر في تصريح لـ"العربي الجديد" إن الاحتجاج غالبا ما يرتبط بالأمل في تحقيق مكاسب عبر الضغط على السلطة، معتبرا أن المحتجين باتوا يعتقدون أن السلطات لا تملك حلولا.
وأشار إلى أن المطالب الاحتجاجية انتقلت جغرافيا من نطاقها الجهوي والمحلي نحو المركز بالتوجه مباشرة إلى مؤسسة رئاسة الجمهورية.
وأضاف المتحدث أن السلطات مارست الاستقطاب الناعم للتحركات الاحتجاجية عبر منح من كانوا محتجين سابقا مراكز قيادية داخل هياكلها.
غير أن المجال القطاعي للاحتجاجات بحسب بن عمر تحوّل نحو التركيز على نقص المواد التموينية الأساسية وتراجع خدمات الصحة والتعليم ومكافحة أشكال التشغيل الهش.
وللعام الثالث على التوالي تواصل الحكومة سياسة الضغط على كتلة الأجور عبر تقليص الوظائف، وتسقيف نسب التدرج الوظيفي سنوياً، إلى جانب التقليص من عدد الساعات الإضافية خالصة الأجر.
يفسر المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، تراجع الاحتجاجات المنظمة من قبل الهياكل النقابية بتأثير توقيف وسجن مسؤولين نقابيين خلال العام الماضي
وهذا العام يصل معدل الإنفاق الحكومي على رواتب الموظفين إلى 23.7 مليار دينار، ما يمثل 13.5% من الناتج الإجمالي المحلي، مقابل 14.4% عام 2023 و14.7% عام 2022.
ولا يزال تخلف الدولة عن تفعيل اتفاقات مهنية لفائدة قطاعات عديدة يقود النقابات والموظفين إلى الاحتجاجات في الشوارع، حيث نظمت التنسيقية الوطنية للأساتذة الأربعاء تحركا وطنيا خاطبت فيه رئاستي الجمهورية والحكومة والبرلمان من أجل إيجاد حلول لتسوية وضعية آلاف المدرسين النواب (بعقود مؤقتة).
وقال المتحدث باسم التنسيقية مالك العياري، إن وزارة التربية التي تشغل نحو 9 آلاف عن طريق العقود لتعويض الشغورات الدائمة تنصلت من وعودها بتسوية وضعيتهم المهنية على دفعات وطلبت منهم توقيع عقود عمل لا تؤمن لهم كافة الحقوق.
وأكد العياري في تصريح لـ"العربي الجديد" عدم تنفيذ وزارة التربية لما تعهدت به سابقا من تمكين الأساتذة المعوضين من عقود عمل تسمح لهم بتقاضي الأجر أثناء فترة الإجازة الصيفية، مشيرا إلى أن العقود التي عرضتها تؤمن للأساتذة أجورا لمدة 9 أشهر فقط.
وانتقد المتحدث باسم تنسيقية الأساتذة النواب عدم توفير الأمان الوظيفي والمالي لشريحة واسعة من المدرسين الذين يدفعون منذ سنوات عجز السلطات عن توفير حلول لأزمة التشغيل الهش في قطاعات عديدة.