تركيا تفشل في تحسين سعر الليرة رغم الفائدة المرتفعة وتحسن الصادرات والسياحة... إليك الأسباب
ثمة حلقة مفقودة في تركيا حتى اليوم، تكشفها الليرة التي لم تتحسن رغم ارتفاع إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، خاصة من قطاعي الصادرات والسياحة، ومرور ستة أشهر على تعيين الفريق الاقتصادي الجديد وخطته الطموحة، التي أحدثت انقلابا على السياسات المالية والنقدية غير التقليدية التي اتبعها الرئيس رجب طيب أردوغان، في السنوات الأخيرة القائمة على أساس تخفيض سعر الفائدة تدريجياً حتى وصلت إلى 8.5%، والرامية إلى بناء اقتصاد غير ربوي في البلاد.
وكان هذا الفريق يراهن من خلال العودة للسياسة النقدية التقليدية القائمة على رفع سعر الفائدة، على امتصاص فائض السيولة من السوق، وبالتالي خفض التضخم وتحسين سعر صرف الليرة.
لكن رهان الفريق الاقتصادي الجديد لم يحقق نجاحات حتى الآن، إذ لم تزل العملة التركية تتراجع لتقترب اليوم من 30 ليرة للدولار، بعد إقفال أمس على 29.846 وتسجيل اليورو 32.688 ليرة.
وفيما يعتقد بعض الاقتصاديين الأتراك أن بلدهم وعملتهم ما يزالان موضع استهداف خارجي، يشير آخرون إلى أن التبدل بالسياسة المالية والنقدية، يحتاج إلى فترة لتظهر نتائجه على الأسواق وتحسين المستوى المعيشي لحياة الأتراك، خاصة أن المناخ الدولي والعوامل الموضوعية، من حروب بجوار تركيا "روسيا وأوكرانيا" وحرب غزة وأثرها على التجارة اليوم، فضلاً عن توترات تحاول أنقرة سحبها، مع دول أوروبية، أثرت ولو بنسب بسيطة على حلم تركيا وتحسن مؤشرات اقتصادها، وخاصة على السياحة التي تعتمدها تركيا كجناح ثان في النمو الاقتصادي، إلى جانب الصادرات للصعود إلى مصاف الاقتصادات العشرة الكبار.
ويأتي التضخم ربما، في مقدمة هواجس الأتراك وتطلعات الفريق الاقتصادي الحكومي، فاستمرار تدحرج كرته ليسجل وفق بيانات رسمية يوم الأربعاء، نسبة 64.77% على أساس سنوي في ديسمبر/كانون الأول، وهو أعلى مستوى منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.
أسئلة حول مدى نجاعة السياسات الاقتصادية التركية التي انقلبت على الفائدة المنخفضة والتيسير النقدي ورفع الفائدة، منذ مايو/أيار بنحو 34%، هادفة السيطرة على التضخم والإيفاء بوعود قطعتها للمستهلك
فهذا ما يزيد الأسئلة حول مدى نجاعة السياسات الاقتصادية التركية التي انقلبت على سعر الفائدة المنخفض والتيسير النقدي ورفع سعر الفائدة، منذ مايو/أيار بنحو 34%، من 8.5 إلى 42.5% هادفة السيطرة على التضخم والإيفاء بوعود قطعتها للمستهلك التركي.
الخطة المالية في تركيا
يرى الاقتصادي التركي، أوزجان أويصال، أنه "من الظلم الحكم على الفريق الحكومي بسرعة" لأن الخطة الموضوعة والتي نسفت التدخل الحكومي، تحتاج 3 سنوات لتظهر نتائجها على الواقع. ويشير أويصال لـ"العربي الجديد"، إلى أن التضخم ورغم ارتفاع نسبته، لكنه أقل من نهاية عام 2021 حينما وصل إلى 85%، والفارق بين ذلك التاريخ واليوم هو الاحتياط الأجنبي بالمصرف المركزي والنظرة الدولية للاقتصاد التركي، والتي تجلت باستقطاب الاستثمارات وتقييم وكالات التصنيف الائتماني، متوقعاً أن يبدأ التعافي بالاقتصاد منذ الربع الثالث من العام الجاري ويتتالى تراجع التضخم وتحسن سعر الليرة، حتى نهاية عام 2025.
ويلفت الاقتصادي التركي إلى أن تحسين سعر الليرة "بطريقة الصدمة كما كانت تفعل الحكومة السابقة"، ليس من أهداف الحكومة الحالية ووزير المال، محمد شيمشك تحديداً، بدليل عدم التدخل المباشر بالسوق وبيع الدولار كما فعلت تركيا في السابق، خاصة قبل الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو العام الماضي، ولرخص العملة برأيه، فوائد كثيرة تنعكس على الصادرات والسياحة، كما أن سعر العملة لا يدلل على قوة الاقتصاد، مشيراً إلى ارتفاع سعر العملة الكويتية والأردنية وانخفاض سعر العملة اليابانية والصينية. وأضاف "استبشروا خيراً وستظهر نتائج الفريق الاقتصادي تباعاً خلال العامين المقبلين".
وكان احتياطي البنك المركزي التركي من النقد الأجنبي قد سجل رقماً قياسياً هو الأعلى في تاريخه بوصوله إلى 145 ملياراً و456 مليون دولار، بحسب تصريح الرئيس، رجب طيب أردوغان قبل أيام، بعد أن أعرب عن أمله في زيادة هذا الرقم أكثر لتعزيز الأمن المالي للبلاد، وتأكيده أن حكومته ستواصل كفاحها الدؤوب ضد التضخم الذي بدأ يؤثر سلباً على جميع أفراد الشعب البالغ عددهم 85 مليون نسمة.
ولم يعتبر وزير المالية، محمد شيمشك من خلل بنسبة التضخم يوم الأربعاء، إذ إن "الأهداف الواقعية والمتسقة" للبرنامج الاقتصادي الذي تتبعه الحكومة ساهمت في تعزيز الاستقرار وزيادة قابلية التنبؤ بالأسواق.
ويضيف أن المؤشرات الأساسية المعدلة سنويًا تواصل مسارها المتوافق مع أهداف الحكومة لعام 2024، مما يعطي مؤشرات إيجابية على تحقيق الاستقرار الاقتصادي المستدام. ومن المتوقع أن يكون النمو والعجز في الحساب الجاري متوافقين مع الأهداف المحددة، مؤكدًا على التزام الحكومة بالوصول إلى هذه الأهداف، خاصةً فيما يتعلق بالتضخم. مشدداً على العزم والإصرار في مواصلة العمل الجاد خلال عام 2024 لتحقيق كافة أهداف البرنامج الاقتصادي، مع التركيز بشكل خاص على مكافحة التضخم وتحقيق الاستقرار في الأسواق.
استراتيجية طويلة الأجل
وتعليقا على التصريحات الرسمية، يوافق مدير أكاديمية الفكر للدراسات الاستراتيجية بإسطنبول، باكير أتاجان، رؤية وزير المال والحكومة داعياً إلى عدم "الاستعجال بالأحكام"، لأن بلاده تشهد انقلاباً بالسياسة الاقتصادية والحكومة الحالية برأيه، تعمل على المدى الاستراتيجي والطويل.
ويستدل أتاجان بمؤشرات ارتفاع الاحتياط الأجنبي بالمصرف المركزي الذي يعتبر أماناً للعملة والمصارف. وقال "لم ولن تشهد تركيا إفلاسات"، وما يزيد من ثقة المستثمرين الذي توقع استقطابهم تباعاً، زيادة الصادرات وتراجع نسبة البطالة والتي تدحض برأيه، ادعاءات من يقول إن الإنتاج التركي تراجع.
وكانت بيانات رسمية تركية، قد أشارت إلى تراجع معدل البطالة 0.5% على أساس شهري ليسجل 8.5% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو أدنى مستوياته في 10 سنوات.
ويضيف باكير أتاجان، أن ارتفاع الصادرات هو المؤشر الاقتصادي الأهم، لأنه يعكس الإنتاج ويحمل معه "إعلانات متحركة عن تطور تركيا"، كما يؤمن القطع الأجنبي الذي سيوازن بالمعروض النقدي "ولو على مراحل"، ما سيحسن الليرة، سعراً وثقة. ولكن في المقابل، ثمة ساخطون على سياسة الفريق الاقتصادي الحكومي، بل ويعتبرون ما تقوم به الحكومة، من رفع الفائدة وزيادة الأعباء الضريبية، سيوقعان تركيا بفخ التضخم وينعكس ذلك سلباً على الصادرات والإنتاج.
زيادات متوقعة في أسعار الفائدة
من جانبه، يقول أستاذ المالية بجامعة باشاك شهير بإسطنبول، فراس شعبو، انتقلت تركيا بالنصف الثاني من العام الماضي، من سياسة اقتصادية إلى أخرى، بهدف ضبط وتقليص نسبة التضخم وتحسين سعر الليرة، لكن النتائج لم تظهر حتى الآن، بل نرى العكس، بعد زيادة الأجور مرتين وزيادة تكاليف الإنتاج وأعباء الاستثمار، لذا من الطبيعي ألا تتحسن الليرة بسبب زيادة معروض العملة التركية بالسوق، كما أن زيادة تكاليف الإنتاج ستؤدي إلى زيادة أسعار المستهلكين.
ويعتبر شعبو خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن السعر الحقيقي للدولار اليوم، ورغم عدم التدخل المباشر من الحكومة والمصرف المركزي، يساوي 36 ليرة، من خلال مقارنته بالحد الأدنى للأجور بين اليوم وبين عام 2021، ومن يتحمل الفارق والعبء هو المنتج الذي يرفع أسعار المنتجات، ما يعني برأي شعبو، الدوران بحلقة مفرغة بالنسبة للتضخم الذي ارتفع الشهر الماضي.
أستاذ المالية بجامعة باشاك شهير بإسطنبول، فراس شعبو: انتقلت تركيا بالنصف الثاني من 2022، من سياسة اقتصادية إلى أخرى، بهدف ضبط وتقليص نسبة التضخم وتحسين سعر الليرة، لكن النتائج لم تظهر حتى الآن
ويحذر أستاذ المالية، بعد توجه الرساميل من الاقتصاد الحقيقي والاستثمارات الصغيرة إلى المصارف التي تدفع سعر فائدة نسبتها 42.5%، من انخفاض الطلب وبالتالي دخول الاقتصاد بركود.
ويقول "وربما تغلق منشآت بسبب ارتفاع التكاليف وأجور العمالة"، مضيفاً أن السياسات المالية والنقدية بتركيا"، غير متوافقة ولا تسير بالتوازي،" لأن الاعتماد على الأموال الساخنة لا يفيد الاقتصاد بقدر ما يضره على المدى البعيد.
وحول عدم تحسن الليرة يضيف شعبو، أن اهتزاز عامل الثقة بالليرة الذي تراكم عبر سنوات، وما أتى عليه المصرف المركزي من توقعات للعام الجاري، هي أسباب مهمة لا يمكن إبعادها. كاشفاً عن "الدولرة" غير المعلنة بالأسواق، فالتسعير الحقيقي بالدولار حتى وإن كان التعامل بالليرة، في حين لا علاقة مباشرة برأيه، للعملات الرقمية ولا حتى لارتفاع سعر الذهب، بتهاوي العملة التركية. وقال "ربما تذهب بعض الأموال لملاذ الذهب لكن الفائدة اليوم أعلى والمدخرات تذهب للمصارف".
وكان الرئيس التركي قد عين أخيراً المتخصصة بالعملات المشفرة، فاطمة أوزكول، لتضاف إلى لجنة السياسة النقدية بالمصرف المركزي، بعد إطلاق المصرف منصة تعاون رقمية بالليرة التركية عام 2021، وإجراء اختبارات لمعاملات الليرة الرقمية في أواخر عام 2022، وتحضيراً لواقع جديد سيتزامن مع قانون لتنظيم الأصول المشفرة، والسعي المتوقع صدوره قريباً، بعد أن بلغت تركيا المرتبة الرابعة عالمياً في تداول العملات المشفرة بنحو 170 مليار دولار العام الماضي.
تحسن طفيف بالصادرات
لكن لماذا تتراجع الليرة رغم زيادة الصادرات في العام الماضي 2023؟
يرى الاقتصادي التركي، يوسف كاتب أوغلو، أن تركيا لم تزل تعاني من "مشاكل اقتصادية وملامح انكماش" بسبب السياسة الاقتصادية الانكماشية التي اتبعتها الحكومة، منذ سبعة أشهر، بعد رفع سعر الفائدة وتخفيض الاستهلاك، هادفة السيطرة على التضخم. رغم ما لتلك السياسة من تبعات ستؤثر على انخفاض نسبة النمو بتركيا، حتى وإن بقي النمو عالياً بالنسبة لدول أوروبا"، أتوقع تراجع النمو من 5.1 إلى 3.7 هذا العام".
الاقتصادي التركي، يوسف كاتب أوغلو، أن تركيا لم تزل تعاني من "مشاكل اقتصادية وملامح انكماش" بسبب السياسة الاقتصادية الانكماشية التي اتبعتها الحكومة
يضيف كاتب أوغلو لـ"العربي الجديد"، أن التحسن بالصادرات "طفيف جداً"، إذ كانت الآمال ومنذ العام الماضي بلوغ قيمة الصادرات 300 مليار دولار، كما أن السياحة هذا العام، تراجعت عن طموحات جذب 57 مليون سائح، وعندما تتراجع السياحة والصادرات فهذا يعني إصابة جناحي الاقتصاد التركي، محملاً وزر تراجع الإنتاج وذهاب الرساميل للمصارف وتراجع الإنتاج الحقيقي، على سعر الفائدة المرتفع، وأن السياسة المالية والنقدية الحالية، هي مطلب غربي للضغط على تركيا لتخفيض نسبة النمو والصادرات.
ويحذر كاتب أوغلو من دخول الاقتصاد بحالة ركود، بعد الجمود وتراجع الاستهلاك الذي يظهر على الأسواق، بعد تراجع القدرة الشرائية وزيادة نسبة الفقر، معتبراً أن رفاهية المستهلك وقدرته الشرائية هي المقياس الأهم والأكثر مصداقية لأي سياسة اقتصادية.
وحول استمرار تراجع سعر الليرة، يشكك الاقتصادي التركي بجدوى رفع سعر الفائدة فقط، لتسحين سعر الصرف، وقال "سيرفعون سعر الفائدة 2.5% خلال الشهر الجاري لتصل إلى 45%"، لأن سحب فائض السيولة من السوق، إن لم يترافق مع سياسة مالية واقتصادية عامة، لن يحقق أهدافه، فإن ضرب الإنتاج عبر رفع أسعار الطاقة والضرائب، فهذا يعني إضعاف الاقتصاد التركي.
وأضاف قائلا "لا يمكن تجاهل فوائد الديون الخارجية وعجز الميزان التجاري وأثرهما بسحب الدولار من الأسواق، وبالتالي حدوث خلل بالمعروض النقدي الذي يرتفع مع زيادة الأجور، الذي ارتفع مرتين العام الماضي ومرة مطلع العام الجاري".
وكان وزير العمل والضمان الاجتماعي التركي، فيدات اشيكهان قد أعلن الأسبوع الماضي، عن رفع الحد الأدنى لرواتب وأجور القطاع الخاص من 11402 ليرة إلى 17002 ليرة.
وفي حين يقلل يوسف كاتب أوغلو، من أثر "الدولرة" غير المعلنة بالسوق التركية، بعد جمود سوقي السيارات والعقارات، يوصي بضرورة التركيز على الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي، لأنه الضامن لتركيا والذي ينعكس على سعر العملة ودخل المستهلك ورفاهيته، متوقعاً تراجع سعر الليرة خلال النصف الأول من العام الجاري ووصول الدولار، ربما إلى 35 ليرة، خاصة إن تم إلغاء إيداع الودائع المحمية بالليرة، كما تشيع الحكومة اليوم.
ويختم المحلل التركي أنه لا أمل سيظهر، قبل عامين، وقت تتقلص فاتورة استيراد المحروقات البالغة 50 مليار دولار وتظهر نتائج البرامج الاقتصادية، والتي نشكك بجدوى بعضها، خاصة الشكل التقليدي بمعالجة التضخم عبر رفع الفائدة الكبير جداً.