تقهقر القدرة الشرائية للجزائريين

29 يوليو 2024
محل خضر بالعاصمة الجزائرية/12 مارس 2023، (بلال بنسليم/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الوضع الاقتصادي المتدهور في الجزائر:** يعاني الجزائريون من ارتفاع حاد في أسعار المواد الاستهلاكية والمعيشية بنسبة تفوق 100% بعد جائحة كورونا، مما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى لصالح الفقيرة.

- **مقارنات غير واقعية للأسعار:** تنتشر مقارنات غير دقيقة بين أسعار السلع في الجزائر ودول أخرى، مما يضلل الرأي العام ويخفي التصدعات في السلم الاجتماعي.

- **الحلول المقترحة لتحسين الوضع:** يجب على الحكومة استقطاب الاستثمارات، تطوير القوى الإنتاجية، مكافحة المضاربة، وتعزيز الرقابة على الأسعار، بالإضافة إلى مكافحة الفساد لضمان توزيع عادل للموارد.

يتخبَّط الجزائريون الذين ينتمون إلى الطبقات الكادحة الفقيرة والمتوسِّطة في دوّامة تصاعدية تجرّ أسعار كل المواد الاستهلاكية والمعيشية نحو الأعلى وتخلق وضعاً اقتصادياً شاذاً وموجة غلاء تعتصر كل من يعيش بالقرب من خطّ الفقر سواء تحته أو فوقه بقليل. فقد قفزت أسعار السلع الغذائية الواسعة الاستهلاك بنسبٍ فاقت الـ 100% بعد جائحة كورونا التي عبثت بصمامات أمان القدرة الشرائية للأسر، بينما ارتفعت الأجور بنسبٍ ضئيلة عجزت عن مواكبة الأسعار الملتهبة، الأمر الذي ساهم في ضمور الطبقة الوسطى لصالح الفقيرة.

غالباً ما تنتشر مقارنات عقيمة ومغلوطة تبتعد عن حدود الواقع وتشيد بانخفاض الأسعار على العموم في الجزائر مقارنة بالعديد من الدول الغنية بالنفط والغاز بصفة عامة، أو بفرنسا التي تضمّ أكبر عدد من المهاجرين الجزائريين بصفة خاصة، كسعر البنزين الذي يبلغ 33 سنتاً أميركياً في الجزائر، بينما يصل إلى 62 سنتاً في السعودية و83 سنتاً في الإمارات و1.96 دولار في النرويج و1.97 دولار في فرنسا.

وكذا رغيف الخبز الذي يُباع بـ 14 سنتاً لكل 500 غرام في الجزائر، وهو الأرخص عالمياً، بينما يصل سعره إلى دولار واحد في السعودية و1.41 دولار في الإمارات و1.94 دولار في فرنسا و3.01 دولارات في النرويج وفقاً لموقع "نومبيو" NUMBEO المتخصِّص بمقارنة غلاء المعيشة بين دول العالم ومدنه، وهذا البُعد الواحد الذي تستند عليه هذه المقارنات يجعلها عديمة الجدوى والفائدة. بينما تستند المقارنات الصحيحة على رؤية ثلاثية الأبعاد تشمل متوسِّط الراتب الشهري ومؤشِّر تكلفة المعيشة ومؤشِّر القدرة الشرائية.

في الواقع، جاءت الجزائر في المرتبة 95 عالمياً من بين 108 دول في ترتيب أغلى بلدان العالم الذي يُصدِره موقع Worlddata.info بمؤشِّر تكلفة معيشة بلغ 28.1، بينما بلغ مؤشِّر القدرة الشرائية فيها 18.2، الأمر الذي يؤكِّد صراع المواطن الجزائري البسيط من الفجوة التي تزداد اتِّساعاً بين قدرته الشرائية المنكمشة وتكاليف المعيشة المتزايدة. ولِوضع الأمور في نصابها الصحيح، يوفِّر هذا الموقع قراءة آنية لمتوسِّط الراتب الشهري الذي بلغ 327 دولاراً في الجزائر، بينما وصل إلى 7878 دولاراً في النرويج، و4097 دولاراً في الإمارات، و3774 دولاراً في فرنسا، و2307 دولارات في السعودية.

بطبيعة الحال، إدخال متوسِّط الراتب الشهري إلى المعادلة هو الذي يُكسِب هذا النوع من المقارنات الموثوقية والمصداقية والموضوعية، فقد بلغ على إثر ذلك مؤشِّر القدرة الشرائية 122.1 في النرويج، و88.6 في الإمارات، و75.6 في فرنسا، و69.6 في السعودية، وهذه الأرقام هي أضعاف مضاعفة لمؤشِّر القدرة الشرائية في الجزائر. فهل من المعقول أن يضحِّي النرويجي بقدرته الشرائية التي تفوق بنحو 7 أضعاف قدرة نظيره الجزائري مقابل الحصول على بنزين وخبز أرخص؟

بطبيعة الحال، تُدحض هذه المعطيات الأقرب إلى الواقع تلك المقارنات الجوفاء الخالية من أيّ معايير علمية وتُخرِس تلك الأصوات التي تحاول أن تصوِّر جنّة وهمية للفقراء ومحدودي الدخل الذين يطحنهم قطار الغلاء ذهاباً وإياباً.
ففي كثير من الأحيان، تُستَخدم أسعار بعض السلع المدعَّمة حكومياً لتحويل الكادحين إلى فريسة سهلة للأبواق التي تحاول باستماتة تشكيل صورة مضلَّلة لا تعكس واقع الحال، تتماهى فيها أطماع المستفيدين من بقاء الوضع على ما هو عليه، ويُستغبى فيها الرافضون للتسليم بالأمر الواقع.

انخفاض أسعار السلع الأساسية المدعَّمة هو جزء لا يتجزَّأ من ثالوث تكلفة المعيشة-متوسِّط الراتب الشهري-القدرة الشرائية، ومن ثم ليس هناك مغزى اقتصادي وواقعي لمحاولات مدح هذا الانخفاض من دون ذمّ الرواتب الهزيلة والقدرة الشرائية الضئيلة. وعلى النقيض من ذلك، هناك مغزى سياسي قويّ لتلك المحاولات لا ينبغي التقليل من أهميته عند إضافة عناصر أخرى إلى الصورة التحليلية كإخفاء التصدُّعات في السلم الاجتماعي.

في الواقع، زُحزحت أجور الجزائريين ورواتبهم عن المستويات التي ثُبِّتت فيها طيلة سنوات وحظي العاطلون عن العمل بمنح بطالة لأوّل مرّة في تاريخ البلاد، كما تمَّ إدماج موظفِّي العقود المؤقَّتة بمناصب دائمة في الإدارات والهيئات الحكومية وتوظيف جميع حاملي شهادتي الدكتوراه والماجستير العاطلين عن العمل، لكن ما لوحظ إجمالاً هو استجابة الأسعار استجابة سريعة وكبيرة لمثل هذه القرارات، الأمر الذي عمَّق الهوّة بين الأجور والقدرة الشرائية وأعاد الجماهير الكادحة مرّة أخرى إلى نقطة تدبير قوت اليوم وانتظار صبّ الراتب الذي ينتهي قبل نهاية الشهر وغضّ البصر عن الكثير من متطلَّبات الحياة الضرورية على أمل الوصول إلى أوّل الشهر التالي بأقلّ الخسائر الممكنة.

يرجع أيضاً تهاوي القدرة الشرائية للجزائريين إلى تهاوي قيمة عملتهم الوطنية الدينار الذي يواصل اتِّجاهه التنازلي، وعدم جدوى سياسات التخفيف من حدّة التضخم الذي من المتوقَّع أن يصل إلى 7.55% في نهاية السنة الجارية وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، وممارسات المضاربة، وضعف تنظيم السوق الداخلية، والاحتكارات الناتجة عن غياب الرقابة، وسياسة كبح فاتورة الواردات التي ساهمت بلا شكّ في ارتفاع أسعار العديد من السلع والمنتجات المحلية في ظلّ غياب المنافسة.

هناك تقارير دولية أخرى تُصدر أرقاماً أكثر سوداوية وانحيازاً إلى الواقع، مثل تقرير مجلة "عالم الرؤساء التنفيذيين CEOWORLD" الأميركية الذي احتلَّت فيه الجزائر المرتبة 133 عالمياً من بين 196 دولة في تصنيف متوسِّط الأجر الشهري الإجمالي، بمتوسِّط راتب بلغ 249 دولاراً شهرياً، متفوِّقة بذلك فقط على مصر (222 دولاراً) وسورية (84 دولاراً) والسودان (76 دولاراً) وجنوب السودان (71 دولاراً)، ومتخلِّفة، بصورة مثيرة للدهشة، عن دول مزَّقتها الحروب والقلاقل السياسية والاقتصادية مثل لبنان (837 دولاراً) والعراق (583 دولاراً).

خلاصة القول، سيبقى المواطن الجزائري أسير متاهة تهاوي القدرة الشرائية التي يطول زمن البقاء فيها جرّاء سياسة الحكومة التي تشبه إلى حدٍّ ما سياسة "المزيد من الماء، المزيد من الطحين" التي تزيد الأمور تعقيداً، ويبقى باب الخلاص الوحيد من هذه المتاهة هو تدوير العجلة الاقتصادية من خلال استقطاب الاستثمارات، وتطوير القوى الإنتاجية، ومكافحة المضاربة، وتعزيز الرقابة على الأسعار، والتخصيص الفعّال لعائدات النفط والغاز، وتكثيف حملات تطهير البلاد من الفساد.

المساهمون