تغلغلت أفكار كارل ماركس التي ضمّنها في كتابه "رأس المال"، (Das Kapital)، والمنشور يوم 14 سبتمبر/أيلول من عام 1867، نقداً لنظرية الاقتصاد السياسي التي طوّرها قبله كل من آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وروبرت مالثوس، وجون ستيوارت ميل.
وقد بنى ماركس كثيراً من أفكاره على ما كتبه سابقوه، مثل نظرية القيمة، ونظرية الريع، ودور المنظم أو (entrepreneur) في تطوير التكنولوجيا، ونظرية ريكاردو في القانون الحديدي للأجور.
ولكنه شرح هذه الأفكار وغيرها، ليخرج بمفهوم أن الرأسمالي هو المستغل للعمال، ويحقّق أرباحاً على حسابهم، لأنه يحدّد كلفة الأجور التي سيدفعها، بغض النظر عن عدد العمال، ولأن الرأسمالي يريد تحقيق نسبة ربح، علماً أن العمل هو أساس قيمة أي شيء يُنْتج.
وقد دعا ماركس العمّال لكي يتّحدوا في وجه الرأسماليين، ويثوروا ضدهم، خصوصا عندما تعجز التكنولوجيا عن تحقيق الأرباح التي يطمع فيها، فيلجأ إلى التكسّب على حساب تخفيض معدل الأجور، لكي يزيد من أرباحه.
وقد لاقت أفكاره مع زميله فريدريك إنجلز (البيان الشيوعي) نجاحاً هائلاً، لأن الفرق بين الأجور والأرباح اتسع بعد الثورة الصناعية إلى حدودٍ أدّت إلى إفقار الأغلبية، وسطوة الرأسماليين على الدخل والثروة.
وهكذا انتشرت الشيوعية، خصوصا بعد الثورة البولشفية في روسيا عام 1917، وانتشار الفكر الاشتراكي، وبروز النقابات العمالية القوية.
وعلى الرغم مما سُجِّل على هذه الحركات من انتقادات، فكراً وتطبيقاً، إلا أنها ساهمت في إعادة المنطقية إلى توزيع الدخل والثروة بين المستثمرين الرأسماليين والعمال.
وعاد إلينا عام 2011 الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، ليعيد صياغة فكرة ماركس عن الاستغلال ومعدّلاته، ليذكّرنا بأن الأجور بعد الثورة التكنولوجية الثالثة، خصوصا في مجال المعلوماتية والاقتصاد الرقمي، تتراجع، بينما تتزايد الأرباح بسرعة كبيرة وَبِنسب عالية، ما جعل توزيع الثروة والدخول في أسوأ صورة عرفها التاريخ.
ونحن نعيش هذه الأيام في حقبةٍ من الزمن، برز فيها إلى المستوى العالمي شبابٌ كثيرون منهم لم يكمل دراسته الجامعية، وحققوا لأنفسهم ثرواتٍ خيالية، عبر الاقتصاد الرقمي والبرمجيات، أو عبر الاستثمار في قطاع العقار والإنشاءات، أو في مجال التجارة، وأصبح لهؤلاء مع الوقت وزن سياسي كبير، بسبب الفوائض الكبيرة في ثرواتهم.
انظر إلى من يعتبر أغنى رجل في العالم، جيف بيزوس، الذي تقدّر ثروته حتى بعد طلاقه بحوالي 190 مليار دولار، وهي قيمة أسهمه في شركة أمازون. وقد اشترى صحيفة واشنطن بوست، وقاد من خلالها حملاتٍ سياسيةً عنيفة ضد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وضد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان.
وقد كان لـ"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" دور واضح في إسقاط ترامب، ونجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن. وقد بدأ الناس يتساءلون عما إذا كان جيف بيزوس ينوي ترشيح نفسه للرئاسة الأميركية، وبعض المحللين والسياسيين يناقشون خطورة النفوذ السياسي الناجم عن تملك ثروةٍ ضخمةٍ في قطاع مهم كالاتصالات.
وهنالك أيضاً "فيسبوك" التي يترأس إدارتها التنفيذية، مارك زوكربيرغ، والذي يعتبر من أغنى رجال العالم (الثالث أو الرابع). وقد قرّرت إدارة شركة فيسبوك حجب الخدمة عن دونالد ترامب عامين إضافيين.
ويتساءل الناس عمّا إذا كان لقرار مثل هذا تأثير على حرية التعبير والفكر في الدول الغنية، على الرغم من أن قرار حجب حسابي "تويتر" و"ماسنجر" عن ترامب مرتبط بإساءة استخدامه لذلك لإحداث عنف فوضوي في الولايات المتحدة (insurrection).
الأجور تتراجع بعد الثورة التكنولوجية الثالثة، خصوصا في مجال المعلوماتية والاقتصاد الرقمي، بينما تتزايد الأرباح بسرعة كبيرة وَبِنسب عالية
وقد اتهم حساب فيسبوك سابقاً بتزويد معلومات عن زبائنه إلى شركة كامبريدج أناليتيكا Cambridge) Analytica)، ما ساعد حملة ترامب على الفوز بالرئاسة عام 2016. وقد أغلقت شركة كامبريدج أبوابها بعد ذلك.
وهنالك بالطبع بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة، والذي لاحقته الإشاعات أخيرا أنه شريك في مؤامرة كبيرة لزرع رقائق إلكترونية (micro chips) عن طريق المطاعيم ضد فيروس كورونا، حتى يتمكّن من خلالها من السيطرة على أفكار الناس، والتحكّم مستقبلاً في سلوكهم، وبيع هذه المعلومات للشركات الدولية، والمنظمات السياسية، وغيرها بمبالغ خيالية.
ويُصَدّق ناس كثيرون حتى القصص التي تقال عن هؤلاء الأشخاص، لإيمان كثيرين بأن هؤلاء أقرب إلى آلهة اليونان، فلهم قدراتٌ خارقة، ولكن لهم صغائرهم ومكائدهم كالبشر العاديين.
ولكن السياسيين يأخذون من رجال الأعمال هؤلاء موقفاً متناقضاً أحياناً، فهم يريدون أن يستفيدوا من نفوذ هؤلاء، في الوقت الذي يريدون لنفوذهم أن يبقى تحت السيطرة، فرئيس الولايات المتحدة، جو بايدن، يضغط على دولة الإمارات، لكي توقف تعاملها مع شركة هواوي الصينية لكي تتعامل مع "أبل" أو "مايكروسوفت" الأميركيتين، ويهدّد بسحب صفقة بيع الإمارات طائرات F35 المقاتلة.
وكذلك رأينا دونالد ترامب يستفيد من "فيسبوك"، ولكنه ينتقدها بشدة لأنها أغلقت حسابه على "تويتر".
ولكن النظام العالمي غير راضٍ عن أساليب الشركات الرقمية العملاقة، في تفاديها دفع الضرائب العادلة، ففي عام 2019 حققت شركة أبل، الحاسوبية، أرباحاً تساوي أرباح شركة جنرال موتورز لصناعة السيارات، ولكن شركة السيارات دفعت ضرائب تساوي ستة أضعاف ما دفعته "أبل"، ويعمل فيها على الأقل عشرة أضعاف العمال في "أبل".
ولهذا بدأت هذه الشركات الكبرى تتعرّض لضغوط سياسية، فمنها على سبيل المثال سيل من القضايا ضدها، بسبب ممارساتها الاحتكارية، بموجب القوانين السارية ضد هذا الوضع (anti - trust laws).
وكذلك، اتفقت لجنة منبثقة عن مجموعة دول السبع (G-7)، والتي اجتمع رؤساؤها الأسبوع الحالي في كورنول في المملكة المتحدة، على وضع ضريبة عالمية (global tax) بنسبة 15% على هذه الشركات... العالم يتحرّك جدياً نحو تحجيم هذه الشركات، والتي صارت كسمك القرش، لها أنياب حادّة، تهدّد من يتعرّض لها أو لمصالحها.