مع اندلاع النزاع المسلح في السودان منتصف إبريل/نيسان 2023، بدأ السودان مرحلة جديدة من المعاناة، فهو البلد الفقير، الذي يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر، والذي تعاني حكومته من أزمة ديون خارجية تعزله عن المحيط الاقتصادي العالمي.
وتتصدر وسائل الإعلام مجموعة من الأخبار المتعلقة بالصراع، من بينها تعطل جزء كبير من الخدمات الطبية الحكومية، بل واستيلاء قوات الدعم السريع على بعض المستشفيات وإخلائها من الطواقم الطبية، واتخاذها مقرًا لها.
وثمة أخبار تشير إلى تعطل عمل الموانئ، ومخاوف من تراجع المخزونات الخاصة بالغذاء، على الرغم من قلّتها، والتي أشارت بعض المصادر إلى أنها تكفي البلاد لمدة شهر فقط.
لكن على الجانب الآخر، ثمة استعدادات وخطوات على الأرض تغذّي الحرب الدائرة بالسلاح، بل ووجود قوات أجنبية على الأراضي السودانية، لدعم قوات الدعم السريع.
المال الحرام
المال السياسي الذي يستهدف توظيف وضع السودان في إطار أجندات إقليمية ودولية من دون رغبة أبنائه، هو بلا شك مال حرام، خاصة إذا ما اقترن هذا التوظيف السياسي للمال بإسالة الدماء، أو تجويع الناس، ونهب ثرواتهم. وكل مال ينفق لترويع الآمنين وتعطيل معايش الناس، هو مال حرام.
لقد عانى السودان منذ عام 1989 من عقوبات اقتصادية، حالت دون تحقيقه مشروعا تنمويا، يمكّنه من الاستقلال السياسي والاقتصادي، للدرجة التي بلغت أن يستورد السودان الغذاء.
وحتى بعد إزاحة نظام عمر البشير في إبريل/نيسان 2019، عانى المواطنون من إجراءات اقتصادية مجحفة، أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم لتزيد عن 400%، وكذلك انخفضت قيمة العملة المحلية بشكل غير مسبوق، ليحلق الدولار عند 500 جنيه، بعد أن كان وقت حكم البشير في حدود 40 جنيها للدولار.
مظاهر هذه الإجراءات كانت متمثلة في ارتفاع نسبة الفقر والبطالة، وكان الناس يأملون خيراً في وجود وجوه جديدة تدّعي الديمقراطية، ولكن الوضع لم يتغير كثيراً، إذ حلت الأجندات الغربية والعربية بقوة في المجتمع السوداني.
وكانت عمليات الإجلاء للأجانب من السودان، بعد اندلاع الاشتباكات المسلحة، كاشفة عن حجم الجمعيات والوكالات الأجنبية العاملة في البلاد، وبلا شك أن هذه الجمعيات كانت تعمل بعيداً عن أعين الحكومة، وأجندتها للتنمية، أو محاربة الفقر والبطالة.
لفت نظر المعنيين بالشأن السوداني، أولئك المستشارين الذين أتوا مع حكومة عبد الله حمدوك ومن بعده، وهم يتقاضون مرتبات خيالية، في حين يتقاضى الموظفون الحكوميون مبالغ زهيدة، تعجز عن تغطية احتياجاتهم الأساسية في بيوتهم.
ولم تكن الإمارات بعيدة عن الحضور في السودان وتعاملها مع بعض مكونات القوى التي تسمي نفسها بـ"المدنية"، وهم يركبون أحدث السيارات ويسكنون أفضل البيوت. ولم يكن خفيًا ذلك الدور الإماراتي الحالي إبان اندلاع الاشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، فثمة حضور إعلامي لمؤسسات إماراتية تعكس انحيازاً لصالح قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي.
والجريمة التي لن تغتفر، أن تحاول بعض الدول الإقليمية ممارسة أدوار في السودان، بدعم النزاع المسلح، أو المشاركة فيه، كما حدث في ليبيا واليمن وسورية، فهذه الدول ضنت بأموالها للتنمية والاستثمار في دول النزاع العربي، ولكنها دفعتها سخية بها نفوسها لتمويل عمليات التسليح، وإزهاق الأرواح، وتهجير ونزوح الناس من بيوتهم إلى المجهول.
لقد بدأت أموال الحرب تؤتي ثمارها في السودان، بعد اندلاع النزاع المسلح، حيث بدأت خدمات الكهرباء والاتصالات تغيب بالكامل عن مدن كثيرة في السودان، والتي كانت تعاني من قلتها أصلاً، وهو ما يعرّض الكثير من أفراد المجتمع السوداني لمزيد من مشقة العيش، والبدء في مهمة البحث عن وطن بديل.
تمويل التسليح
لم تنجح مساعي وقف الصراع المسلح في السودان على مدار الأيام الماضية، وبالتالي فنحن أمام صراع مفتوح، وقد يمتد لمدة طويلة، فالخبراء يصرحون بأن قوات الدعم السريع قد تعتمد حرب العصابات، لإرهاق الجيش السوداني واستنزافه لأكبر وقت ممكن.
وقد شهدت مدينة الخرطوم ومدن أخرى، عمليات نزوح، مما يعني أن الحرب قد يطول أمدها. بل يرى بعض الخبراء، إمكانية نقل الصراع إلى مدن أخرى، مما سيعقد الوضع الإنساني في السودان، وينذر بعواقب وخيمة للصراع الدائر هناك.
الدولة السودانية تعاني من أزمة تمويلية لا تخفى على أحد، خاصة بعد أحداث عام 2021، وتوقف برامج المنح والمساعدات، بل وتوقف التعامل مع المؤسسات المالية الدولية، وتهديد استفادة البلد من مبادرة إسقاط الديون عن الدول الفقيرة، والتي بموجبها تم إسقاط 14 مليار دولار من ديون السودان الخارجية.
وقد يكون من المقبول لدى النظام السوداني، في ظل مقدرات الدولة، أن تستمر عمليات التسليح للحفاظ على مقدرات الدولة، وبقاء أداء الجيش بإمكانياته المختلفة، للدفاع الخارجي، ومواجهة العمليات التي تقودها قوات الدعم السريع. لكن غير المنطقي، أن تستمر قوات الدعم السريع في عمليات النزاع المسلح، مهما كان لديها من أموال وثروات، فهي تحارب دولة، خاصة بعد أن تم ضرب معظم مقراتهم، ولا أدل على ضعف إمكانياتهم المادية وقصر أمد بقائهم في هذه الحرب، من اعتداءاتهم على الأموال الخاصة، والاستيلاء على بيوت الناس والمؤسسات، واتخاذها مقار بديلة، فضلًا عن عمليات الاستيلاء على أموال العائلات والأفراد.
ومن هنا سيأتي الدور الخارجي بتمويل قوات الدعم السريع، ليتحقق لهؤلاء الممولين أهداف أجندتهم في تقسيم السودان وبقائه ضعيفًا. ولكن هؤلاء الممولين، لا يبذلون أموالهم في تمويل النزاع المسلح، بلا مصلحة مادية ظاهرة، فبعضهم عينه على ما تملك السودان من ثروات ومعادن، أبرزها الذهب، الذي يمثل قرابة 50% من الصادرات السلعية للبلاد عام 2021، حسب بيانات البنك المركزي السوداني، حيث بلغت قيمة صادرات الذهب في هذا العام ما يزيد قليلًا عن ملياري دولار.
ولا يستبعد أن تكون أعين ممولي الحرب في السودان على الذهب وغيرها من البلد الفقير، مما تبقى له من مصادر يمكن أن تحافظ على ما تبقى له من مقومات الدولة.