لم يهدأ المجتمع المدني في فلسطين وخارجها منذ العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ابتداءً من حظر المنتجات والخدمات الداعمة لإسرائيل إلى الخروج في مظاهرات مناهضة للعدوان ومؤيدة للقضية الفلسطينية في كل أنحاء العالم، وفي آخر الحملات التي أطلقها ائتلاف من منظمات فلسطينية قبل أيام حملة باسم "حظر الطاقة العالمي" تدعو إلى فرض حظر شامل للطاقة على إسرائيل رداً على عدوانها المستمر على قطاع غزة، وتحث الحملة النقابات العمالية والجماعات البيئية ومنظمات حقوق الإنسان على وقف جميع صادرات الطاقة إلى إسرائيل، حتى يتوقف العدوان.
وإلى جانب وقف واردات الوقود يطالب الائتلاف بوقف صادرات الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.
وفي حين يعد الحظر على الطاقة أحد الوسائل الاقتصادية القوية التي يمكن أن تؤثر على اقتصاد الكيان الإسرائيلي، وتشل من حركته، بالأخص في بلد يعتمد على الاستيراد كثيراً، تواجه هذه المبادرة تحديات كبيرة وفرصاً مهمة لا بد من لفت الانتباه إليها.
الطاقة من وإلى "إسرائيل"
يعتمد الكيان الإسرائيلي على استيراد احتياجاته من الطاقة من الخارج على الرغم من الاكتشافات في حقول الغاز الطبيعي ضمن حقلي تمار وليفاثان في البحر المتوسط، إذ ساهم إنتاج الحقلين من الغاز الطبيعي في تقليص حصة الواردات من الخارج إلى حدٍّ ما، وزيادة الصادرات خاصة إلى مصر والأردن.
تستورد إسرائيل احتياجاتها من النفط الخام، والنفط المكرر، والغاز الطبيعي، والفحم، والفوسفات من عدة دول حول العالم، وتعد هذه الواردات ضرورية لتشغيل محطات الطاقة لإنتاج الكهرباء، وتلبية احتياجات النقل والصناعة.
وأي تعطيل في تدفق هذه المواد الأساسية قد يسهم في مشكلات اقتصادية كبيرة تؤدي إلى ارتفاع في الأسعار العامة، وهروب الرساميل والشركات الأجنبية من البلاد، بالإضافة إلى عودة الإسرائيليين الأجانب إلى بلدانهم في أوروبا وأميركا بحثاً عن موطنٍ أكثر استقراراً. لذا تنظر الحكومة الإسرائيلية بحساسية عالية إلى موارد الطاقة من ناحية استقرار عملية التوريد.
احتل النفط المرتبة التاسعة بين أهم المنتجات التي تستوردها إسرائيل، فقد بلغت حجم الواردات في العام 2021 من السلع والخدمات ما قيمته 92.1 مليار دولار، و64.1 مليار دولار من الصادرات، وبلغ حجم الواردات من الوقود المكرر 2.04% من إجمالي الواردات بقيمة 1.88 مليار دولار، والنفط الخام بنسبة 1.48% بقيمة 1.36 مليار دولار، والفحم بنسبة 0.58% بقيمة 533 مليون دولار، بحسب بيانات عام 2021.
واستوردت إسرائيل النفط المكرر من الهند بنسبة 31%، وجاءت اليونان في المرتبة الثانية، ثم الولايات المتحدة وروسيا، ومن دول أخرى مثل إيطاليا وسويسرا وسنغافورة والإمارات.
واستوردت النفط الخام من أذربيجان بنسبة 65% والولايات المتحدة بنسبة 14.5%، ثم نيجيريا والبرازيل وأنجولا في المراتب التالية. وجاء الغاز من بريطانيا وأميركا وسويسرا، والفحم الحجري من كولومبيا وروسيا وأفريقيا الجنوبية.
وتشير الإحصائيات المتاحة في العام 2023 إلى حدوث تغير في مصادر النفط الذي تستورده إسرائيل، لتصبح القائمة على الشكل التالي: كازاخستان، أذربيجان، دول غرب أفريقيا، البرازيل، مصر، دول أخرى. وبحسب التقارير فإن إسرائيل باتت تستورد احتياجاتها من النفط والتي تقدر بربع مليون برميل نفط يومياً من دولتين هما كازاخستان، وأذربيجان بنسبة 60%.
أما الصادرات فقد صدّر الكيان الإسرائيلي خاماً مكرراً بنسبة 4.25% من حجم صادراته في العام 2021 بقيمة 2.73 مليار دولار إلى كل من تركيا وقبرص وفلسطين واليونان وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وغيرها. وصدّر النفط الخام إلى كل من بلغاريا والهند وإيطاليا.
كيف يمكن أن تنجح مبادرة الحظر؟
بناء على هذه الأرقام يمكن القول إن مبادرة حظر الطاقة تشكل أداة ضغط مهمة على الاقتصاد الإسرائيلي، سواء جزئياً أو شاملاً. ولكن يجب لفت الانتباه إلى عدة نقاط لضمان نجاح المبادرة.
في العام 1973 تدخلت الدول العربية المنتجة للنفط في منظمة أوبك بقيادة السعودية وحظرت النفط على الولايات المتحدة والدول التي دعمت إسرائيل في صراعها مع سورية ومصر والعراق، وإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967.
حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من 5 أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة، لم تبدِ أيٌّ من الدول العربية انخراطها في مبادرة لحظر الطاقة على إسرائيل، ولم تهدد بهذه الأداة سوى إيران. وعليه لن يكون للمبادرة التي أطلقها ائتلاف المنظمات الفعالية والقوة نفسها التي حصلت في العام 1973.
كما أن اختلاف الوقت يلعب دوراً كبيراً في تمييع فكرة الحظر، إذ في استطاعة الكيان الوصول إلى أسواق الطاقة العالمية وشراء النفط والغاز والفحم بكل يسر، أكثر من ذي قبل، يساعدها في ذلك ارتباطها الوثيق في الأسواق العالمية والدعم اللامحدود من الولايات المتحدة ودول في أوروبا.
وعليه فإن هناك حيزاً كبيراً للتهرب من أي عمليات حظر وعقوبات قد تُفرض على إسرائيل في استيراد الطاقة. ومن جانب آخر فقد اعتمد الكيان على تنويع مصادر استيراد الطاقة من عدة دول حول العالم وهو ما يشكل تحدياً في تطبيق آليات الحظر.
على الرغم من ذلك، هناك نقطتان يمكن استغلالهما في هذا الجانب، الأولى: يشكل ارتفاع نسبة واردات الطاقة إلى إسرائيل نقطة ضعف كبيرة يمكن استغلالها لمصلحة المبادرة، إذ يجعل اقتصاد الكيان ذا تبعية عالية لواردات الطاقة، وعرضة لتقلبات الأسعار في الأسواق المالية العالمية.
والنقطة الثانية: تركز تلك الواردات من دول بعينها مثل كازاخستان وأذربيجان، وهما ذات غالبية مسلمة، وهي نقطة قوة لمصلحة المبادرة يمكن العمل عليها لتعزيز فاعليتها وتأثيرها.
يمكن البناء على زخم مبادرات الحظر التي بدأت منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة لمقاطعة السلع والخدمات الداعمة للكيان الإسرائيلي، والتي أظهرت حتى الآن التزاماً كبيراً من الدول والمنظمات والمجتمعات، وسبّبت بما لا يدع مجالاً للشك خسائر مالية للشركات الداعمة.
بالمثل يمكن تنظيم حملات شعبية لمقاطعة الشركات النفطية العاملة في إسرائيل مثل شركة شيفرون الأميركية، من خلال الامتناع عن التزوّد بالوقود من محطاتها المنتشرة في أمريكا وحول العالم، وتنظيم حملات ضغط على إدارة الشركة لسحب ترخيصها من إسرائيل.
والخطوة الأخرى، هي العمل على حملات دبلوماسية وضغوط سياسية في كل من كازاخستان وأذربيجان حيث 60% من واردات النفط الخام يأتي من هذين البلدين، لإعادة النظر في سياسات التصدير، فإن لم يمكن القطع فرفع سعر البرميل المُباع على الأقل بالشكل الذي يسبّب أضراراً مالية على الاقتصاد الإسرائيلي. وتنظيم مظاهرات شعبية للضغط على حكومتي البلدين لتعديل سلوكها الاقتصادي مع الكيان.
لا شكّ أن حملات المقاطعة تحتاج إلى صبر كبير وتأخذ وقتاً كبيراً حتى تظهر نتائجها، ولكن في ظل ما يحصل من تواطؤ عالمي على غزة، وقلة حيلة المنظمات تعد هذه الخطوات أدوات فعّالة في مواجهة تغوّل إسرائيل في فلسطين وإلحاق الأذى باقتصادها.
وفي هذا السياق يمكن الاقتداء بدولة جنوب أفريقيا التي طبّقت حملات مقاطعة ضد الحكومة خلال عهد الفصل العنصري والتي كانت جزءاً من حركة عالمية لممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي على حكومة جنوب أفريقيا لإنهاء سياسات الفصل العنصري، حيث شملت مقاطعة البضائع والخدمات، والانسحاب الاستثماري من الشركات الدولية، وحظراً على الرياضة والثقافة، وقد أسهم نجاح هذه الحملات في عزل جنوب أفريقيا دولياً، أسفر عن تغييرات سياسية كبيرة أنهت الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
أخيراً، تعتمد المبادرة على إحداث تغييرات في تدفقات الطاقة على الكيان، وتبعات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، والاستقرار الاجتماعي، سيعد تحقيق خروقات في أحد تلك الأهداف لمساعدة الفلسطينيين في تقوية موقفهم وحجتهم خلال مفاوضات قادمة، وتسريع إيقاف العدوان، وزيادة النقمة الشعبية على إسرائيل.