دخل العديد من الحكومات العربية في حروب مفتعلة مع التجار، وشنّت حملات دعائية في وسائل الإعلام الموالية وفي الأسواق، بدعوى ضبط الأسعار وتوفير السلع، التي تضررت العديد من الإمدادات منها، ولا سيما القمح، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الغربية الصارمة على موسكو.
بينما تشهد معظم البلدان العربية منذ سنوات ضغوطاً معيشية متفاقمة وغلاءً لا يتوقف، حيث تعتمد معظم البلدان على استيراد الكثير من احتياجاتها من الغذاء وغيره من المنتجات.
وفي تونس ومصر، بشكل خاص، بدا المشهد صاخباً. ففي أولى ساعات فجر الأربعاء الماضي، تحوّل الرئيس التونسي قيس سعيد إلى وزارة الداخلية، مهدداً المضاربين والمحتكرين بإجراءات جديدة سيعلنها في "الساعة الصفر"، محاولاً طمأنة التونسيين إلى أنّ الدولة متماسكة، وستتصدى لهؤلاء الذين يهددون قوت المواطنين.
وتأتي التحركات الحكومية لتحميل التجار والمواطنين أسباب الغلاء ونقص السلع، في الوقت الذي حذر البنك الدولي، الأسبوع الماضي، من أنّ ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا قد يفاقم مخاوف الأمن الغذائي القائمة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد يؤدي إلى تنامي الاضطرابات الاجتماعية.
وقالت كارمن راينهارت، كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي، في مقابلة مع "رويترز": "ستكون هناك تداعيات مهمة على الشرق الأوسط وأفريقيا وشمال أفريقيا وجنوبي الصحراء الكبرى على وجه التحديد"، التي تعاني بالفعل من انعدام الأمن الغذائي، مضيفة: "من المعروف أن انعدام الأمن الغذائي وأحداث الشغب كانا جزءاً من قصة الربيع العربي".
تنكر حكومي في مصر
وبينما تتصاعد أصوات المواطنين المكتوين بالغلاء في مصر، عقد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الثلاثاء الماضي، اجتماعاً في حضور وزراء التموين والزراعة والداخلية والمالية والتجارة والصناعة، ورئيس جهاز حماية المستهلك، قائلاً إنّ الحكومة لن تسمح بقيام بعض التجار "الجشعين" بتخزين وإخفاء السلع الأساسية من أجل رفع أسعارها في الأسواق.
وتسابق إعلاميون موالون للنظام إلى تصدير الأزمة إلى التجار والمواطنين أيضاً بسبب الاستهلاك، فيما خرجت فرق رقابية من وزارات التموين والتجارة لتداهم المتاجر الصغيرة في بعض أحياء القاهرة، ترافقها كاميرات تصوير، في محاولة لاختزال أسباب الغلاء إلى هؤلاء التجار.
ومصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وبلغت وارداتها من القمح الروسي نحو 8.96 ملايين طن، من أصل 13.3 مليون طن استوردتها بين يوليو/تموز 2020 ويونيو/حزيران 2021. وتحصل مصر على نحو 80% من احتياجاتها من القمح من سوقين رئيسيين، هما طرفا الأزمة الحالية (روسيا وأوكرانيا).
ووفق تقارير البنك الدولي الصادرة في مايو/أيار 2019، فإن 60% من سكان مصر، إما فقراء أو عرضة للفقر، إذ أصبح دخل الفرد من هذه النسبة لا يزيد على 1.9 دولار، أي نحو 30 جنيهاً يومياً.
وقفز سعر رغيف الخبز غير المدعوم في محافظات مصر إلى جنيه ونصف جنيه (الدولار يعادل 15.7 جنيهاً)، فضلاً عن المعجنات، والمعكرونة، والحلويات، نتيجة ارتفاع أسعار الدقيق (الطحين) بنسبة تزيد على 30%، إلى جانب الارتفاعات الكبيرة الأخرى في أسعار الذرة الصفراء، وفول الصويا، والأرز، والسكر، وزيوت الطعام، والمسلي الصناعي، والزبدة.
ويرجع الرئيس عبد الفتاح السيسي في مناسبات متكررة الفقر والغلاء إلى زيادة الإنجاب والاستهلاك، بينما يؤكد مراقبون لـ"العربي الجديد" أن السياسات التي اتبعها الرئيس المصري منذ نحو ثماني سنوات، وخاصة تعويم الجنيه المصري نهاية 2016، ما أدى إلى انخفاضه بشكل حاد أمام العملات الأجنبية، وتوجيه أموال ضخمة إلى الكثير من المشروعات الإنشائية العملاقة على غرار العاصمة الإدارية الجديدة شرقيّ القاهرة، أدت إلى تراجع المستويات المعيشية لمعظم المصريين.
شماعة الاحتكار في تونس
وفي تونس تحمّل السلطات المحتكرين مسؤولية اختفاء سلع أساسية من الأسواق، متهمة شبكات توزيع الغذاء بالتلاعب بقوت المواطنين، بينما يحذر مهتمون بالشأن الاقتصادي من مخاطر تعويم قضية ندرة المواد الأساسية في البلاد وحصرها في مكافحة الاحتكار، في وقت تسارع كل الدول إلى تأمين غذاء شعوبها على وقع الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
وبدأت فرق مشتركة من الأمن وجهاز المراقبة الاقتصادية بتنفيذ خطة رئاسية لتعقّب من وصفتهم بالمحتكرين عبر مداهمة مخازنهم ومصادرة السلع المخزنة، في ثاني حملة وطنية لملاحقة التجار منذ بدء الرئيس قيس سعيّد بما تُعرَف بالتدابير الاستثنائية التي اتبعها منذ 25 يوليو/تموز 2021 وجمع بمقتضاها كل السلطات في يديه.
وأعلنت وزارة التجارة وتنمية الصادرات، الخميس الماضي، وضع خطة مشتركة تتضمن برامج رقابية على مختلف حلقات الإنتاج والتخزين والتوزيع، مشيرة إلى توافر المخزونات الكافية من المواد الأساسية المدعمة والمواد الموردة بما يغطي احتياجات الاستهلاك خلال الفترة الحالية وشهر رمضان الذي يحل مطلع إبريل/ نيسان المقبل، داعية المواطنين إلى ترشيد مشترياتهم وتفادي مختلف "مظاهر اللهفة"، التي من شأنها إرباك الأسواق.
لكنّ السوق التونسية تعاني منذ أشهر طويلة من نقص في مواد أساسية لموائد التونسيين، ولا سيما الدقيق (الطحين) والزيوت النباتية والسكر والأرز، وهي مواد تدعمها الدولة في إطار سياسة اجتماعية تعتمدها تونس منذ أكثر من خمسة عقود.
يقول وزير التجارة السابق والخبير الاقتصادي محسن حسن لـ"العربي الجديد" إن "الحكومة يجانبها الصواب بحصر مشاكل نقص التموين في مسألة الاحتكار"، مؤكداً أن تونس تعاني بالفعل من مشاكل هيكلية في اقتصادها وماليتها، ما أثر مباشرةً بقدرة الدولة على مواصلة تأمين واردات المواد الأساسية التي تتصاعد أثمانها يومياً منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. ويضيف حسن أنّ "شماعة الاحتكار التي تعلّق عليها السلطة أسباب اختفاء مواد أساسية من السوق ليست إلّا جزءاً من مشاكل متراكمة تتجه بالبلاد إلى اقتصاد الندرة".
في المقابل، تنشر الوزارات المكلفة تنفيذ حملات تعقّب من تصفهم بالمحتكرين بلاغات يومية عن حصيلة المداهمات "لأوكار الاحتكار والمضاربة" وحجز آلاف الأطنان من الدقيق والسكر والبيض ومختلف السلع المختفية من الأسواق.
لكنّ تجار الجملة وأصحاب مخازن الغذاء ينفون تهم الاحتكار والمضاربة التي تلاحقهم، مؤكدين أنهم أصبحوا في مرمى الملاحقات القضائية، في إطار حملات السلطة الدعائية للتغطية على عجزها عن توفير قوت التونسيين".
ويقول عز الدين فطناسي، وهو تاجر جملة للمواد الغذائية في العاصمة تونس، لـ"العربي الجديد" إنّ "السوق تحتكم إلى قانون العرض والطلب في كل دول العالم"، مضيفاً أن ما تصفه السلطة بمكافحة الاحتكار لن يخفض الأسعار ولن يحقق العرض المطلوب في الأسواق نتيجة وجود نقص حقيقي في مخزونات العديد من السلع مثل الحبوب وزيت الطعام وعدم تناسبها مع الاحتياجات الحقيقية".
ومنذ إعلان الرئيس التونسي التدابير الاستثنائية في يوليو/تموز الماضي، شنّ حروباً على ما وصفها بشبكات المضاربة والاحتكار، ووعد بخفض الأسعار، غير أن وعوده لم تتحقق وفق مواطنين وخبراء اقتصاد.
وبينما عمدت الحكومة إلى تصدير أزمة الغلاء إلى التجار، أقدمت على رفع أسعار الطاقة مرتين في غضون شهر واحد، الأمر الذي أكد محللون أنّه يسبب زيادة في أسعار مختلف السلع في الأسواق.
غلاء غير مسبوق في الجزائر
صاحبت الحرب الروسية الأوكرانية، موجة غلاء غير مسبوقة في الجزائر، بينما وجهت السلطات بوصلتها نحو التجار، محولةً إياهم إلى "عدوٍ" يتحمل وحده وزر تعثر الاقتصاد وارتفاع الأسعار.
ورغم اعتراف مختلف الأوساط التجارية والاقتصادية بأن تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا سببت المزيد من الغلاء، إلا أن الغلاء كان حاضراً بالفعل قبل الأزمة.
ويقول المتقاعد محمد عبد القادر لـ"العربي الجديد" إن "غلاء الأسعار في الجزائر عرفناه قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وما يحاول أن يربطه بها، تحليلات خاطئة أو مُضللة، يحاول من يروج لها تغطية عجز الحكومة عن ضبط الأسواق".
وشهدت الأسواق الجزائرية موجة غلاء غير مسبوقة مسّت جميع السلع على السواء، وكانت المواد الغذائية واسعة الاستهلاك والخضر واللحوم في مقدمة السلع التي طاولها ارتفاع الأسعار، الذي تسابق الحكومة الجزائرية عقارب الزمن لاحتوائه من خلال شنّ حرب غير مسبوقة على التجار الذين تحمّلهم مسؤولية الغلاء، فيما يدافع التجار عن أنفسهم بتبرئة ذمتهم من تسريع انهيار قدرة الجزائريين الشرائية.
ويقول الخبير الاقتصادي عبد الرحمن مبتول إنّ "الركود الاقتصادي يعود في الأصل إلى ما قبل ظهور جائحة كورونا قبل عامين، ومن الجهل ربطه بالجائحة أو حتى الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، فمحاولة اختزال الأزمة بجشع التجار، شيء من التضليل غير المبرر".
ملاحقة أصحاب المطاحن في ليبيا
تحركت حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا في العديد من الاتجاهات لمواجهة غلاء الأسعار، إلّا أنّ الأسعار واصلت الصعود، إذ يؤكد موردو سلع وتجار جملة الجملة لـ"العربي الجديد" أنّ الأمر خارج عن السيطرة، فقد ارتفعت أسعار السلع الرئيسية عالمياً بشكل حاد خلال الأيام الأخيرة، بينما يعتمد البلد بشكل رئيسي على الاستيراد لتلبية معظم احتياجاته.
واتخذت وزارة الاقتصاد خطوات تصعيدية لشركات المطاحن وأجبرتهم على توفير دقيق المخابز بسعر مقبول أو سحب التراخيص من تلك الشركات. وكذلك عقدت اجتماعات أخرى مع موردي زيت الطعام، وفق مصادر تحدثت مع "العربي الجديد".
ويقول المحلل الاقتصادي محمد الشيباني إنّ الحكومة لا تملك شيئاً سوى الوعود، لأنّ دعم السلع مرفوع منذ عام 2015، بالإضافة إلى كونها لا تملك موازنة لغرض التدخل من أجل استقرار التضخم، وصولاً إلى المعدلات الآمنة".
ضرائب الاستهلاك ترفع الأسعار في الأردن
وفي الأردن، تبدو المواجهة بين الحكومة والتجار على الأبواب، إذ يقول مسؤول حكومي لـ"العربي الجديد" إنّ الحرب الروسية الأوكرانية لم تؤثر مباشرة في الأسعار، لوجود مخزون من المواد الغذائية والسلع الأخرى، وإنّ آثار الحرب تحتاج إلى وقت حتى تنعكس على السوق المحلية، بينما لوّح تجار بالفعل بزيادة الأسعار.
ويقول رئيس نقابة المواد الغذائية خليل الحاج توفيق، إنّ ارتفاع أسعار الزيوت يعود إلى ما قبل الأزمة الروسية الأوكرانية، منتقداً الاتهامات التي توجَّه إلى التجار، وتحميلهم مسؤولية ارتفاع الأسعار.
وطالب توفيق الحكومة بخفض ضريبة المبيعات والرسوم المفروضة على السلع الغذائية وغيرها هذه الفترة لمواجهة ارتفاع الأسعار عالمياً.
لجان مغربية لملاحقة المضاربين
وفي المغرب، كثفت اللجان الحكومية المخولة مراقبة الأسواق، زيارة الأسواق بهدف حثّ التجار على احترام شروط السلامة الغذائية والأسعار. وتسعى تلك اللجان المكونة من ممثلي وزارة الداخلية والسلطات المحلية ووزارتي الصناعة والتجارة والصحة، إلى الحيلولة دون تحكم من المضاربين في السوق.
وكانت الحكومة قد أرجعت ارتفاع الأسعار في الآونة الأخيرة إلى المضاربة في الأسعار، في ظلّ تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. لكنّ كثيرين يشيرون إلى أنّ هناك أسباباً أخرى مؤثرة تتوارى في ظلّ المشهد الحالي، وهي الجفاف الذي يعصف بالحاصلات الزراعة، بينما يعتمد النمو في البلد بشكل مؤثر على هذا القطاع.