ترسم الخسائر التي تعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي خلال أقل من شهرين من بدء الحرب على قطاع غزة صورة قاتمة حول أداء مختلف القطاعات، ما دعا كثيرين إلى طرح تساؤلات حول الحيز الزمني الذي يمكن للاقتصاد أن يستغرقه للتعافي من آثار الحرب، التي فاقت خسائرها خسائر عام جائحة فيروس كورونا في 2020، وكذلك الأضرار التي سببتها الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرة منذ 2022 وأزمة تعديلات النظام القضائي هذا العام.
وباتت الخسائر ضاغطة بشكل كبير على القرار الإسرائيلي بشأن الاستمرار في الحرب، حيث تؤشر قرارات حكومية وبيانات مالية متواترة إلى احتمال انتهاء الحرب قريباً، لا سيما ما يتعلق بعدم تمديد التعويضات المقررة للشركات المتضررة لما بعد نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وكذلك إنهاء عقد إيواء الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم من المناطق القريبة من مرمى المقاومة الفلسطينية في وحدات سكنية بمناطق عدة داخل إسرائيل، والذين يفوق عددهم 125 ألف شخص، بل والتخطيط لإعادة بعضهم إلى مستوطنات على بعد 7 كيلومترات فقط من قطاع غزة، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فضلا عن المفاوضات المكثفة التي تجريها حكومة الاحتلال مع شركات الطيران العالمية لاستئناف عودة رحلاتها إلى إسرائيل.
ومن المتوقع أن ينتهي عام 2023 بقفزة تبلغ نسبتها 35% في عدد الشركات المغلقة، بما يوازي 57 ألف شركة هذا العام مقارنة بـ42 ألفًا في عام 2022. وتمثل الشركات الصغيرة 90% من هذه الكيانات، لا سيما العاملة في قطاعات البناء والزراعة والسياحة والترفيه، كما أنه منذ بدء الحرب لم تفتح أي شركة تقريباً أعمالاً جديدة.
ووفقاً لمسح أجرته شركة معلومات الأعمال "Coface BDI" لصالح صحيفة "ذا ماركر" الاقتصادية الإسرائيلية، فإنه مع بداية الحرب تم إغلاق 39.5 ألف شركة، كما توجد 17.5 ألف شركة إضافية من المتوقع إغلاقها نهائياً في الربع الأخير من هذا العام.
ويشير المسح، الذي أوردته الصحيفة أمس الأربعاء، إلى أن إجمالي عدد الشركات التي انهارت ومن المتوقع أن تنهار هذا العام أعلى من عدد تلك التي افتتحت ومن المتوقع افتتاحها، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض عدد صافي الأعمال في الاقتصاد، لافتة إلى أنه في العام العادي ينمو الاقتصاد بنحو 4500 شركة في المتوسط، بينما من المتوقع هذا العام أن ينخفض عدد الشركات بنحو 20 ألف شركة.
أضرار تتخطى تداعيات كورونا
وتتخطى الأضرار التي تسببت فيها الحرب التداعيات التي شهدتها الأعوام الاستثنائية الأخرى، إذ شهد عام جائحة كورونا في 2020 إغلاق 36 ألف شركة.
وتقول تاهيلا ياناي، الرئيسة التنفيذية المشاركة لشركة "Coface BDI"، إن "انخفاض عدد الشركات يعني انكماش الاقتصاد، وهذا يؤثر على الجميع.. هذا الانخفاض يعني منافسة أقل وقوة أكبر للشركات الكبرى، وزيادة البطالة وانخفاض الدخل المتاح، وهو ما يؤدي إلى انخفاض الطلب، وبالتالي يؤدي إلى تراجع الاستثمار الأجنبي".
ووفق المسح، فإن الضرر يكون شديداً بشكل خاص في بعض القطاعات، أحدها البناء والتشييد، الذي بدأ العام في وضع إشكالي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، ما أدى إلى قفزة في نفقات التمويل، ويعاني من توقف العديد من المشاريع نتيجة النقص الحاد في القوى العاملة، والتي تعتمد إلى حد كبير على العمال الأجانب.
الصناعات الأخرى التي تأثرت بشكل خاص هي المقاهي والمطاعم والترفيه والنقل ووكالات السفر. وتشير "Coface BDI" إلى أن القطاعين الصناعي والزراعي تعرضا لأضرار جسيمة منذ بداية الحرب، كما أنه منذ بدء المعارك لم يتم فتح أي أعمال جديدة تقريباً.
تقول ياناي: "لقد أصابت الحرب الاقتصاد الإسرائيلي عندما كان بالفعل في وضع إشكالي، بسبب عواقب أزمة تعديلات النظام القضائي وارتفاع أسعار الفائدة والتضخم، ما أدى إلى انخفاض الدخل المتاح والقوة الشرائية.. في الأرباع الثلاثة الأولى من العام، وصل عدد غير قليل من الشركات إلى حالة من الإفلاس".
وتضيف: "حتى قبل الحرب، قدرنا أن عدد الشركات التي ستغلق أبوابها في عام 2023 سيكون أعلى من العام السابق"، متوقعة أن يستغرق تعافي الاقتصاد الإسرائيلي وقتاً أطول من الوقت الذي استغرقه للخروج من تداعيات كورونا.
يصف ناداف رابابورت، وهو صاحب أحد المطاعم في تل أبيب، اليوم السابق لـ7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بأنه "أقوى يوم شهده المطعم منذ افتتاحه"، ولكن من المفارقات أنه كان أيضاً آخر يوم كان فيه المطعم مفتوحاً.
وفور اندلاع الحرب، قام رابابورت وشركاؤه بإغلاق المطعم الذي افتتح في مارس/ آذار الماضي فقط. في البداية، اعتقدوا أنه سيُعاد فتحه عندما يعود الجمهور إلى التردد على المطاعم، لكن بعد ثلاثة أسابيع من دراسة وتقييم الوضع، قرروا إغلاقه نهائياً.
وتجبر الخسائر الشركات الإسرائيلية على بيع أصولها لسداد التزاماتها، إذ تبحث عن مصادر سيولة، بينما تتراجع قيمة الأصول. وحسب تقرير لصحيفة "غلوبس" الاقتصادية الإسرائيلية، نشر على موقعها الإلكتروني مساء الثلاثاء، أخطرت شركة "ديسكونت إنفستمنت" بورصة تل أبيب بأنها تجري محادثات لبيع حصتها البالغة 36% في شركة الاتصالات الإسرائيلية "تيلكوم إسرائيل".
كلفة باهظة وديون
وتعكس البيانات الرسمية الإسرائيلية كلفة الحرب الباهظة، إذ تشير تقديرات وزارة المالية إلى أن كلفة الحرب تبلغ نحو مليار شيكل يومياً (268.8 مليون دولار).
وبحسب تقديرات مختلفة، فإن كلفته الإجمالية ستصل إلى نحو 200 مليار شيكل، أي نحو 40% من موازنة عام 2023، بحسب تقرير منفصل لـ"غلوبس"، وهي تكاليف ضخمة سيتم تمويلها بطريقتين رئيسيتين: الأولى حزمة مساعدات سخية من الولايات المتحدة بقيمة 14.3 مليار دولار، وهي على شكل ذخيرة وعقود شراء مع الموردين الأميركيين، وليس على شكل مساعدات مالية مباشرة، والثانية من خلال الاقتراض من أسواق الدين.
وفي وقت سابق من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أن إسرائيل اقترضت 6 مليارات دولار في الأسابيع الأخيرة من خلال صفقات تم التفاوض عليها بشكل خاص للمساعدة في تمويل حربها على غزة. وتتحمل إسرائيل دفع عوائد كبيرة على هذه الديون.
وبينما لم يتم الإعلان رسمياً عن تسعير الفائدة في إصدارات الديون الأخيرة، لكن صحيفة "غلوبس" أشارت إلى تقارير تظهر أنه من المتوقع أن تدفع حكومة الاحتلال عوائد عالية تبلغ 6.25% و6.5% على السندات المستحقة خلال 4 و8 سنوات على التوالي.
وإلى جانب الزيادة الحادة في أعباء الديون ونفقات الفوائد، من المتوقع أيضاً أن يتضرر الناتج المحلي نتيجة للحرب. وفي التوقعات التي نشرها بنك إسرائيل المركزي هذا الأسبوع، انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2% هذا العام وفي 2024، مقارنة بتوقعات النمو البالغة 2.3% و2.8% على التوالي.
كما قدم كبير الاقتصاديين في وزارة المالية شموئيل أبرامسون، هذا الأسبوع، توقعات مماثلة لعام 2023، وتوقعات أكثر تشاؤمًا لعام 2024، حيث سيصل النمو في السيناريو المتشائم إلى 0.2% وفي السيناريو الأكثر تفاؤلاً 2.2%. ويؤدي انخفاض النمو، إلى جانب زيادة الديون، إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج، وهو رقم مهم في تقييم مخاطر الائتمان في البلدان.
وتتعرض "حكومة الحرب" بقيادة بنيامين نتنياهو لانتقادات حادة في ما يتعلق بالتعامل مع التداعيات الاقتصادية. ووفق صحيفة "معاريف"، أمس، فإن مراقب الدولة متانياهو إنجلمان سينشر خلال ديسمبر/ كانون الأول المقبل تقريراً شاملا للتدقيق حول فشل الحكومة في التعامل مع الجبهة الداخلية وعدم وجود خطة اقتصادية.
التخلي عن المتضررين
وباتت الخسائر الاقتصادية ضاغطة بشكل كبير على القرار الإسرائيلي بشأن الاستمرار في الحرب، وسط مؤشرات إلى احتمال وضع أوزارها قريباً في ظل عدم احتمال إسرائيل المزيد من الخسائر في الأشهر وربما الأسابيع المقبلة.
وأشارت صحيفة يديعوت أحرونوت في تقرير، أمس، إلى أن غالبية الشركات في إسرائيل لم تحصل بعد على أي تعويض عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بأعمالها في الشهرين الأولين من الحرب، بينما البرنامج الذي وافقت عليه الحكومة والكنيست لتعويض الشركات سينتهي اليوم الخميس، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، ولم يتقرر استمرار البرنامج لشهر ديسمبر/ كانون الأول أيضاً.
والوضع مماثل أيضاً في ما يتعلق ببرنامج الامتيازات للذين جرى استدعاؤهم للجيش من جنود الاحتياط البالغ عددهم نحو 360 ألف شخص، والذي ينقضي أيضا بنهاية هذا الشهر، ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى وجود أي نية لتمديده، وفق الصحيفة.
ولفتت يديعوت أحرونوت إلى تقديم نحو 70 ألفاً من أصحاب الشركات والمحلات التجارية طلبات للحصول على تعويضات من خزينة الدولة عن الخسائر التي تعرضوا لها في الشهرين الأولين من الحرب، حيث تشير التقديرات إلى أن قيمة التعويضات ستصل إلى نحو 15 مليار شيكل، بينما تمديد الخطة حتى ديسمبر/ كانون الأول سيكلف ميزانية الدولة، التي دخلت بالفعل في عجز كبير، ما بين 3 و5 مليارات شيكل أخرى.
كما تدرس وزارة المالية إنهاء عقدها مع الجمعية الإسرائيلية لشقق الإقامة قصيرة الأجل (ISTRA) بعد 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، مبررة ذلك بعدم الرضا عن الأسعار المفروضة مقابل إسكان عشرات آلاف الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من المستوطنات والبلدات القريبة من قطاع غزة جنوباً والحدود اللبنانية شمالاً، وفق تقرير لصحيفة "ذا ماركر" أخيراً.