يبدو أن سياسة "تقطير" الغاز الروسي باتجاه أوروبا قد فعلت فعلها بصنّاع السياسة الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لتجاوز بعض القيود أو العقوبات على موسكو، سواء على مستوى أمن الطاقة أو أمن الغذاء الأوروبي أولا، والعالمي على نطاق أوسع.
اليوم الثلاثاء، اقتربت حكومات الاتحاد من التوصل إلى اتفاق بشأن تقنين الغاز الطبيعي هذا الشتاء للحماية من أي تخفيضات أخرى للإمدادات من جانب روسيا، في الوقت الذي تواصل فيه موسكو غزو أوكرانيا.
رئيس الوزراء التشيكي يوزف سيكيلا، الذي تتولى بلاده حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، قال إن خفض شحنات الغاز الروسي الذي أعلنته مجموعة "غازبروم"، أمس الإثنين، هو "دليل جديد" على أن أوروبا يجب أن "تحد من اعتمادها على الإمدادات الروسية بأسرع وقت ممكن".
وقبل اجتماع مع نظرائه في دول الاتحاد الـ27 في بروكسل للاتفاق على خطة للحد من استهلاك الغاز في التكتل، قال سيكيلا إن "الوحدة والتضامن هما أفضل سلاحين لدينا ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، مضيفا: "إنني واثق من أننا سنظهر ذلك اليوم".
ويأتي ذلك عقب إعلان "غازبروم"، الإثنين، أنها ستخفض شحنات الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب "نورد ستريم" إلى 33 مليون متر مكعب يوميا اعتبارا من غد الأربعاء، شارحة أنها ستعلق عمل توربين آخر بسبب "مشكلة تقنية في المحرك"، وهو ما رأى فيه الأوروبيون "ٌقرارا بدوافع سياسية".
وأوضحت الشركة، عبر حسابها على تلغرام: "ستصبح القدرة الإنتاجية لمحطة الضغط بورتوفايا 33 مليون متر مكعّب في 27 يوليو/تموز"، أي نحو 20% من إمكانيات خط أنابيب "نورد ستريم"، مقابل 40% حاليا.
واقترحت المفوضية الأوروبية، الأسبوع الماضي، على الدول الأعضاء خفض استهلاكها للغاز بنسبة 15% على الأقلّ اعتبارا من أغسطس/آب، من أجل قضاء فصل الشتاء بدون مواجهة كارثة كبرى، علما أن شحنات الغاز الروسي كانت تمثل حوالى 40% من واردات الاتحاد الأوروبي حتى العام الماضي.
وتنص خطة بروكسل التي تبحثها الدول الأعضاء الثلاثاء، على أن كل بلد "يبذل كل ما بوسعه" للحد من استهلاكه من الغاز بين أغسطس/آب 2022 ومارس/آذار 2023، بما لا يقل عن 15% مقارنة بمتوسط الفترة ذاتها خلال السنوات الخمس الأخيرة.
وفي حال وجود "مخاطر نقص حاد"، دعت بروكسل إلى تفعيل آلية إنذار بعد التشاور مع الدول، يصبح بموجبها خفض الاستهلاك بنسبة 15% "ملزما" للدول الـ27.
معارضة من دول أوروبية لخطة خفض استهلاك الغاز
لكن الخطة المدعومة من برلين تواجه معارضة من عدة دول مثل بولندا وإسبانيا، وكذلك إيطاليا واليونان والبرتغال. ولذلك، عمل دبلوماسيو الدول الـ27 على تعديل نص المفوضية على أمل أن تتوصل الدول الأعضاء إلى اتفاق اليوم الثلاثاء.
مفوض الطاقة قادري سيمسون قال لدى وصوله إلى الاجتماع اليوم، إن "الدول الأعضاء لديها مشكلات مختلفة، لكنني أتوقع في نهاية المطاف أن نتوصل إلى اتفاق سياسي".
ومنذ أن غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط المنصرم، واحتج الغرب بفرض عقوبات اقتصادية، واجهت 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي وقف أو تخفيض شحنات الغاز الروسي.
ورغم أنه وافق على حظر النفط والفحم من روسيا اعتبارا من وقت لاحق من هذا العام، فقد امتنع الاتحاد عن فرض عقوبات على الغاز الطبيعي الروسي، لأن ألمانيا وإيطاليا وبعض الدول الأعضاء الأخرى تعتمد بشكل كبير على هذه الواردات.
وقالت وزيرة الطاقة الإسبانية تيريزا ريبيرا، إن بلادها تتوقع أن تتوصل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اليوم إلى اتفاق لخفض استخدام الغاز الطبيعي خلال الشتاء بأقل من 15%، لكن على أساس طوعي.
وصرحت ريبيرا للصحافيين في بروكسل قبل اجتماع الاتحاد الأوروبي: "أعتقد أننا سنرى اتفاقا، كلنا نفهم أنه عندما يطلب شخص ما المساعدة، علينا الرد.. يمكن أن تتخذ المساعدة أشكالا مختلفة، لكن روح التعاون هو الذي يسود".
واستعدادا لتخفيضات الإمدادات الروسية المحتملة، اقترحت المفوضية الأوروبية قواعد الطوارئ الأسبوع الماضي التي تتطلب من كل دولة عضو خفض استخدام الغاز بنسبة 15%، على أن يكون الهدف طوعيا، لكن يمكن للجنة أن تجعله ملزما في حالة الطوارئ المتعلقة بالإمداد.
ومن المتوقع أن توافق دول الاتحاد الأوروبي على نسخة ضعيفة من الاقتراح، مع إلغاء البند الذي يسمح لها باتباع مسارات وطنية مختلفة.
وتعارض إسبانيا، التي استثمرت بكثافة في البنية التحتية لاستيراد وإعادة تصدير الغاز الطبيعي لبقية دول الاتحاد الأوروبي، البالغ عددها 27 دولة، إجبار المستهلكين والشركات على قطع استخدام الغاز.
وقالت ريبيرا في بروكسل إن إسبانيا لديها أكبر قدرة في أوروبا لإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال المستورد إلى غاز طبيعي، وعرضت مساعدة دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
خفض إمدادات الغاز يفاقم التضخم في أوروبا
وتؤدي الاضطرابات في تجارة الطاقة الروسية مع الاتحاد الأوروبي إلى إذكاء التضخم الذي بلغ بالفعل مستويات قياسية في أوروبا، ويهدد بإحداث ركود في الكتلة في الوقت الذي كانت تتعافى فيه من الركود الناجم عن الوباء.
ويعمل شح الطاقة أيضا على إحياء التحديات السياسية القائمة منذ عقود لأوروبا بشأن تنسيق السياسات. فبينما اكتسب الاتحاد الأوروبي سلطة مركزية على السياسات النقدية والتجارية ومكافحة الاحتكار والمزارع، لا تزال السيادة الوطنية على مسائل الطاقة سائدة إلى حد كبير.
أزمة أوكرانيا تجعل الولايات المتحدة أكبر مصدّر للغاز المسال
هذا وقالت إدارة معلومات الطاقة الأميركية إن الولايات المتحدة أصبحت أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال عالميا خلال النصف الأول من العام 2022، جراء تبعات الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وذكرت الإدارة (حكومية)، في تقرير مساء الإثنين، أن الصادرات الأميركية من الغاز الطبيعي المسال زادت 12% على أساس سنوي خلال النصف الأول من العام الجاري إلى 11.2 مليار قدم مكعبة يوميا.
وكانت دول أوروبا والمملكة المتحدة من كبار مستوردي الغاز الطبيعي المسال الأميركي، ضمن محاولاتها الانفكاك عن مصادر الطاقة الروسية.
وكانت قطر وأستراليا تتنافسان على لقب أكبر مصدّر للغاز المسال عالميا، إلا أن الحرب الروسية والعقوبات الغربية أعادت ترتيب كبار مصدري الغاز.
وتحاول الولايات المتحدة الضغط على روسيا عبر تقليص مداخيلها من مصادر الطاقة، وتعويض أي نقص قد تواجهه دول أوروبا من خلال إمدادات الشركات الأميركية. إلا أن دول أوروبا لا تزال غير قادرة على الانفكاك عن الغاز الروسي، عبر خطي "نورد ستريم 1" وخط الغاز المار عبر أوكرانيا، عدا عن شحنات الغاز التي تنقل بحرا.