في ظل المشكلات والأزمات الاقتصادية التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية، نجد معالجات ناقصة وخطابات تُوظف لصالح الحكومات لتبرئها من خطيئة التخلف والوقوع في الفقر، بأن يتم إرجاع حدوث الفقر في المجتمع لقيام الأفراد بارتكاب الذنوب والمعاصي.
وهذا الخطاب يتناول أحد طرفي العقد الاجتماعي، وهو أفراد المجتمع، أما الطرف الثاني وهو الحكومات، فلا يوجه لها خطاب مواز يبين ما ترتكبه من ذنوب ومعاص في حق المجتمعات والمواطن، وتكشف عن أن سياساتها تؤدي لترسيخ التخلف واتساع رقعة الفقر، وانتشار البطالة، والأمية والمرض، وتشير إلى الطرف المنسي لأسباب جلب وتزايد الفقر في المجتمعات، وهو ذنوب ومعاصي الحكومات، ومنها على سبيل المثال ما يلي.
احتكار السلطة
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ"، أي أن المحتكر مذنب وعاص، وقد ذهب الفهم السائد في مجتمعاتنا إلى وضع هذا المفهوم في إطاره الاقتصادي فقط، بينما يرى أهل السياسة أن احتكار السلطة يندرج تحت مفهوم الحديث الشريف أيضًا.
فاحتكار السلطة يمنع المجتمع من حياة شورية، ويمنع تداول السلطة رغم عدم كفاءة المحتكر، وهو بدوره يؤدي إلى منع الناس حقهم، في اختيار من يحكمونهم ومحاسبتهم، وهو حق أصيل للشعوب في النظام الإسلامي.
ويترتب على احتكار السلطة العديد من الخطايا الاقتصادية والاجتماعية، من تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، مما يحرم المجتمع من خبرات أهل الكفاءة، فيشيع الظلم، وتنتشر الرشوة، ويعم الفساد، وكل هذه الآفات مهلكة للزرع والنسل.
وتندرج تحت احتكار السلطة، كافة الممارسات سيئة السمعة للحكومات، من تزوير الانتخابات، ووجود برلمانات صورية، وإفساد القضاء، وتجاوزات الشرطة في حق المواطنين من تعنت وتعذيب، واعتقال ومصادرة أموال، وهتك الأعراض... إلخ.
إن تقييم مناخ الاستثمار في أي بلد، يتضمن وجود دولة سيادة القانون، واستقرار التشريعات، وهذه أمور لا تتوفر في ظل احتكار السلطة.
سوء تخصيص الموارد
من ذنوب ومعاصي الحكومات، إهدار موارد المجتمع، وسوء تخصيصها، ومما هو مسلم به أن إهدار الموارد وسوء تخصيصها من أهم سمات الدول المتخلفة، فالإنفاق على التسليح لحماية النظم الديكتاتورية، وإهمال الإنفاق على التعليم والصحة والبنية الأساسية، أو إعطاء مناطق جغرافية دون سواها داخل المجتمع، من أجل كسب رضا أو ولاء أهلها للحكومة أو النظام، هو أحد مظاهر الخلل الاقتصادي الذي يجلب الفقر والفاقة.
إن غياب الرشد في الإنفاق الحكومي للدول العربية والإسلامية لا تخطئه عين، ففي الوقت الذي نرى فيه مسؤولي الحكومات في دول غير إسلامية، يستخدمون المواصلات العامة، أو السفر مع عامة الناس، أو يسكنون في مجتمعاتهم دون حراسة، نجد مسؤولي الحكومات في دولنا لديهم السيارات الفارهة والطائرات الخاصة، في الوقت الذي تعاني فيها شعوبهم من فقر وبطالة، وتراجع ملموس في خدمات التعليم والصحة.
إرهاق الناس بالضرائب والرسوم
فقد شرعت وسنت الضرائب والرسوم من أجل قيام الدولة بوظائفها، من أجل تيسير حياة الناس، ولكن أن تتحول الضرائب لمجرد إغناء الحكومات وإفقار الناس، ومنعهم من الخدمات الضرورية واللازمة لمعيشتهم، فهذا من أوزار الحكومات التي تجلب الفقر والفاقة، وتؤدي إلى وجود مشكلات اجتماعية كبيرة داخل الدولة.
وقد رأينا في مجتمعاتنا، نتيجة تصرف الحكومات بإرهاق المجتمعات بالضرائب والرسوم، كيف اتسعت رقعة الفساد لدى العاملين بالإدارات الضريبية، بغية تقليل ما يجب جمعه من ضرائب، وكذلك تفنن الممولين في التهرب من الضرائب.
فلو أن الحكومات تخلت عن وزر، إرهاق الناس بالضرائب، وأحسنت التصرف في ما تحصل عليه من جباية، لسارع الناس بدفع ما تستحقه الدولة من ضرائب، فعندما يجد المجتمع أن ما يدفعه من ضرائب، يعود عليه في شكل خدمات جيدة، وقيام الدولة بوظائفها على الشكل المرضي، يسود الرضا، ويزيد الإنتاج، وتقل البطالة، وتضيق رقعة الفقر.
وقد كانت وصية سيدنا علي بن أبي طالب لوالي مصر: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنَّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً".
الفساد وغياب الشفافية
من الذنوب والخطايا التي ترتكبها الحكومات، وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، رعايتها للفساد، بل وسعيها للإفساد، لتظل في السلطة، وتوجد ما يسوغ ممارساتها غير الصحيحة، ولا أدل على ذلك الأمر إلا ما تنشره تقارير منظمة الشفافية الدولية، حيث إن غالبية الدول العربية والإسلامية في ترتيب منخفض في النزاهة والشفافية، وتقبع عدة دول عربية وإسلامية بقائمة أفسد 10 دول على مستوى العالم، منذ سنوات.
والصناديق السوداء في الوضع المالي للدول العربية والإسلامية، أصبحت كثيرة، بدءًا من مخصصات الرؤساء والملوك، ونزولًا للوزراء وكبار الموظفين والقضاة ورجال الإعلام، وانتهاءً بصغار الموظفين، الذين لا يجدون إلا فرض الإكراميات والإتاوات على طالبي الخدمات الحكومية.
ارتفاع معدلات الأمية
في الوقت الذي تعرف فيه الأمة الإسلامية، بأنها "أمة أقرأ" نجد أن الإحصاءات الصادرة عن مؤسسات إسلامية، تبين أن نسبة الأمية في العالم الإسلامي لمن هم فوق سن 15 عامًا، تصل إلى 40%.
إن هذه النسبة المرتفعة جدًا من الأمية بين شعوب الأمة الإسلامية، هي خطيئة تتحمل وزرها الحكومات، وفي ظل الأمية، لا تسأل عن اليد العاملة الماهرة، ولا تسأل عن إنتاج التكنولوجيا أو توطينها، أو الصادرات السلعية عالية التكنولوجيا.
ولا غرابة في أن تعتمد غالبية الشعوب الإسلامية على الخارج، في تدبير شؤون غذائها ودوائها وسلاحها. وطبيعي في ظل ارتفاع معدلات الأمية، أن ترتفع معدلات البطالة، وينتشر الفقر، وتقل الإنتاجية.
لم تنتفض برلمانات الدول الإسلامية، لتحاسب حكوماتها على خطيئة ارتفاع معدلات الأمية. وتكتفي الحكومات بخطط ورقية لمحاربة الأمية، ولكن لا يوجد من يحاسبها على هذه الخطط، ولا من يراجع إنفاقها على بنود أخرى هامشية، يمكن من خلالها دعم مشروعات مكافحة الأمية. فمتى تتوب حكوماتنا عن ذنوبها وخطاياها؟ ومتى يذكرها بذلك من يذكرون الأفراد بذنوبهم وخطاياهم. "اعدلوا هو أقرب للتقوى".
العمل على تغييب وعي الشعوب
وهذه من الذنوب الجارية التي ترتكبها الحكومات تجاه شعوبها، فيتم توجيه الرأي العام لقضايا تكرس للطائفية، أو العرقية، أو تقديم موضوعات لا تشكل أي أهمية على أجندة التنمية الإنسانية، على قضيتي التعليم والصحة.
ومن خلال أجهزة إعلام غير سوية، يتم تقديم قدوات للمجتمع، لا تضيف شيئا للأجيال الحالية أو القادمة، ويتم تصدير هذه القدوات العدمية في الإعلام، بل وفي مناهج الدراسة في السنوات الأولى للتعليم الإلزامي، ويتم تفريغ الجامعات من الباحثين الجادين، أو الأساتذة المجتهدين، فلا يكون أمامهم إلا الهجرة للخارج، أو الانطواء على أنفسهم، بغية أن تحين فرصة أخرى داخل الوطن.
الخلاصة أننا نجد أن الخطاب الذي يحمل الأفراد المسؤولية عن الفقر، من خلال الوقوع في الذنوب والمعاصي، دون أن يشير إلى ذنوب وخطايا الحكومات، هو خطاب منقوص، لا يعرف شمولية المسؤولية في الإسلام.
فكما أن الأفراد مطالبون بالابتعاد عن الذنوب والمعاصي، فالحكام والحكومات مطالبون كذلك بإقامة العدل، وحسن إدارة أوضاع البلاد في كافة المجالات، لكي لا يُفتن الناس في ظل الفقر والفاقة.