رحلة جمع الكمأة من البادية: سوريون يخاطرون بحياتهم من أجل لقمة العيش

08 مارس 2023
رحلة جمع الكمأة من البادية
+ الخط -

في أكبر أسواق مدينة حماة السورية، ترتفع أصوات باعة ينادون على "الذهب الأصفر"، في إشارة إلى الكمأة التي تشكل مصدر رزق لسوريين يخاطرون بأرواحهم لجمعها من الصحراء غير آبهين بخطر الألغام المتناثرة أو بنيران تنظيم داعش الإرهابي.

في سوق الحاضر، يعرض محمّد صلحة (31 عاماً) أكياساً من الكمأة لبيعها، بعدما جال مدة أسبوع في مناطق صحراوية قريبة من قريته العلية في ريف حماة الشرقي. ويقول بينما يزيل التراب عن الثمار: "إنها لقمة مغمّسة بالدماء. نجازف بأرواحنا وأجسادنا لنحصل عليها لكننا لم نعد نكترث لأننا نريد إطعام أبنائنا".

ويضيف: "أخرج يومياً من منزلي، ولا أعرفُ ما إذا كنت سأعود إلى زوجتي وابنتي".

وتُقطف الكمأة الصحراوية، المعروفة بجودة أنواعها في سورية، عموماً بين شباط/فبراير ونيسان/إبريل.

وغالباً ما يواجه المدنيون خلال موسم جمعها خطراً، يتمثّل في ألغام زرعها تنظيم داعش الإرهابي أو نيران عناصره المتوارين في مناطق صحراوية واسعة والذين ينفذون هجمات دموية مباغتة.

منذ شهر شباط/فبراير، أحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 130 شخصاً في البادية السورية خلال جمعهم الكمأة، غالبيتهم بنيران التنظيم.

وتباع الكمأة بسعر مرتفع، ما يفسّر إقبال المواطنين في المناطق الريفية على جمعها لبيعها في ظل ظروف اقتصادية صعبة مع حرب مستمرة منذ 12 عاماً.

في سوق حماة، يراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين خمسة دولارات و25 دولاراً، وفق جودة الثمار وحجمها.

ويوضح صلحة: "نجني أرباحاً كبيرة خلال شهري موسم الكمأة، لكننا أيضاً نضع أرواحنا على كفوفنا"، متابعا أننا "نطلق عليها الذهب الأصفر لأن ثمنها مرتفع مثل الذهب، ويصعب الحصول عليها".

بقع دماء

في السوق حيث يفترش عشرات الباعة الأرض، تتصدر صناديق الكمأة ما عداها من خضار وفواكه.

بين الفينة والأخرى، يصرخ أحدهم "مزاد، مزاد"، فيتجمع حوله تجار يريدون شراء كميات كبيرة، ليبدأ المزاد على خمسين كيلوغراماً يحظى بها من يقترح السعر الأعلى.

يفتتح عمر البوش مزاده بسعر 32 ألف ليرة (4,5 دولارات) للكيلوغرام الواحد، ليختتمه بعد أقل من ربع ساعة بسعر 61 ألف ليرة (9 دولارات).

ويقول البوش (52 عاماً) إن "ثمة عائلات تفضّل شراء الكمأة على اللحمة"، موضحاً أن "سعرها يختلف بحسب جودتها، ولدينا نوعيات تناسب ذوي الدخل المتوسط".

وبحسب تجار، فإن الكمأة الأغلى ثمناً هي الكمأة السوداء التي تشتهر بها مناطق البادية في ريفي حلب وحماة. وبسبب امتداد البادية السورية مترامية الأطراف، تنتَج في سورية أنواعٌ مختلفة من الكمأة.

وبادر عدد من التجار، وفق ما يشرحه جمال الدين دكاك (51 عاماً) وهو تاجر جملة من دمشق، إلى شراء النوعيات الجيدة من المحاصيل وتصديرها بشكل فردي إلى العراق ولبنان. كذلك، جرى تصدير كميات إلى الخليج عن طريق التهريب عبر الأردن.

وتشهد أسعار الكمأة ارتفاعاً هذا العام بسبب خطورة جمعها.

ويشرح يوسف سفاف (43 عاماً) وقد جلس خلف بسطة عرض عليها عشرات ثمار الكمأة: "هناك ألغام وقطّاع طرق وأراض واسعة ينتشر فيها الدواعش، تضحّي الناس بحياتها من أجل بعض المال كي تعين نفسها".

ويشتري سفاف بضاعته من بدو يرتادون المدينة صباح كل يوم، وفي حوزتهم كميات مختلفة من الكمأة.

ويشرح بانفعال: "هناك على ملابس بعض البدو بقع من الدماء، ثمة من خسر أفراداً من عائلته خلال جمع الكمأة، واستمرّ في ذلك لأن لا خيار لديهم، يريدون العيش، وأنا أعذرهم".

ورغم التحذيرات الأمنية من الجهات المختصة، يزدهر جمع الكمأة.

ونقلت صحيفة "الوطن" السورية مطلع الشهر الحالي، عن مصدر عسكري مناشدته المواطنين "عدم التوجه إلى البادية لجمع الكمأة كونها مناطق لم تعلن آمنة بعد، وتشهد عمليات تطهير من خلايا تنظيم داعش".

وأفاد عن وجود "العديد من القطاعات المزروعة بالألغام والعبوات الناسفة".

مغامرة البحث بين الألغام

قبل ثلاث سنوات، فقد جهاد العبدالله (30 عاماً) إحدى قدميه بانفجار لغم بينما كان يقود شاحنته أثناء جمعه الكمأة في قرية السعن في ريف حماة الشرقي. وبات منذ ذاك الحين يستعين بعكّازين معدنيين من أجل التنقل.

لكنه يواصل رغم ذلك أحياناً جمع الكمأة، وإن كان يخصص الجزء الأكبر من وقته في مثل هذا العام لبيع المحصول الذي يجمعه أشقاؤه من الصحراء.

ويقول بينما يفترش الأرض قرب بسطة يعرض عليها الكمأة في السوق: "لم يعد لديّ ما أخسره بعدما فقدت قدمي، وأنا مستمر في عملي لتأمين قوت يومي، وأسلّم أمري لله".

وتعدّ الأجسام المتفجرة وضمنها الألغام من الملفات الشائكة المرتبطة بالحرب السورية التي توشك على إنهاء عامها الثاني عشر.

ولا يبدو خطر التصدي لها سهلاً في بلد يشهد نزاعاً معقداً أودى بنحو نصف مليون شخص، واتبعت خلاله أطراف عدّة استراتيجية زرع الألغام في مختلف المناطق. وتشكّل الألغام المتروكة في أراض زراعية وبين المناطق السكنية خطراً دائماً على المزارعين والمارة ورعاة الماشية.

ويعيش نحو 10.2 ملايين سوري في مناطق مزروعة بالألغام، ما أسفر عن مقتل 15 ألف شخص تقريبا بين 2015 و2022، وفقًا للأمم المتحدة. بينما ينتظر بيع غلّته للعودة الى منزله، يشبّه العبدالله جمع الكمأة بـ"لعب ورق الشدة"، قائلا: "تربح مرة وتخسر مرة. إنها مقامرة وأنا رضيت بها".

(فرانس برس)

ذات صلة

الصورة
بورصة نيويورك، 12 أغسطس 2024 (Getty)

اقتصاد

إن مجرد ذكر لحظة مينسكي، التي تعني الانهيار المفاجئ للأسواق والاقتصادات المدمنة على الديون، يكفي لإثارة الرعب في قلوب صناع السياسات
الصورة
الدواجن/أسواق مصر (Getty)

اقتصاد

قال مستهلكون ورواد في مجال الصناعة إنّ المصريين يعتمدون بشكل متزايد على الدفع بالتقسيط ليس فقط لشراء سلع باهظة الثمن، ولكن لشراء سلع عادية رخيصة نسبياً مثل الملابس والبقالة، في وقت تواجه فيه الدولة ارتفاعاً قياسياً في التضخم.
الصورة
تعز-سياسة-12/4/2018

اقتصاد

تزايد إقبال المواطنين في مدينة تعز، وسط اليمن، على شراء الملابس الشتوية المستعملة من البسطات المنتشرة بشكل ملحوظ في الأسواق والجولات وأرصفة الشوارع الرئيسية، في مسعى منهم لإيجاد القليل من الدفء لهم ولأطفالهم والتغلب على برد الشتاء القارس.
الصورة
موريتانيا

اقتصاد

مع حلول فصل الصيف، تبدأ مئات العائلات الموريتانية التدفق إلى واحات النخيل وأسواق التمور، للمشاركة في ما يسمى محلياً بـ"الكيطنة" أو موسم جني التمور، الذي يشبه الموسم السياحي الداخلي.
المساهمون