ينتظر العامل المياوم، محمود بن حمزة (51 عاماً) منذ فترة طويلة، فرصة عمل في إحدى المزارع للمشاركة في جمع محصول هزيل من الحبوب هذا العام في ريف تونس، وسط مخاوف من أن تطول بطالته بسبب تأثيرات الجفاف في المنطقة.
ويمثل موسم حصاد الحبوب بالنسبة إلى محمود ومئات الآلاف من عمال المياومة في القطاع الزراعي أحد أبرز المواسم الفلاحية المشغلة لليد العاملة، غير أن تلف المحاصيل نتيجة الجفاف هذا العام يهدد بإحالته إلى بطالة قد تستمر لأشهر طويلة.
ويقول العامل الزراعي لـ"العربي الجديد" إنه يعمل منذ ما يزيد على 30 عاماً في أعمال مختلفة في القطاع الفلاحي، مقابل أجر يومي يراوح ما بين 25 و30 ديناراً يوفر له الحد الأدنى من مصاريف أسرته المتكونة من 6 أفراد.
لكن مواسم العمل في القطاع الفلاحي، بحسب المتحدث، ليست مسترسلة، ما عدا العمل في موسم حصاد الحبوب الذي يوفر فرص عمل لمدة ثمانية أسابيع تمتد من بداية يونيو/ حزيران إلى نهاية أغسطس/ آب، حيث ينتدب مالكو المزارع والضيعات العمال للمشاركة في أعمال جمع المحاصيل وسياقة عربات الجر وتجميع الأعلاف.
خسارة 80% من الحبوب
هذا العام قد يسبب الجفاف خسارة ما لا يقل عن 80 بالمائة من محصول الحبوب، وسط توقعات بألا تتجاوز الكميات المجمعة 250 ألف طن مقابل 740 ألف طن في العام الماضي.
يؤكد بن حمزة أن خسارة محصول الحبوب سيؤدي إلى هبوط حاد في فرص العمل اليومية التي يوفرها موسم الحصاد، ما يسبب البطالة لمئات الآلاف من سكان الريف، ويزيد معدلات الفقر بينهم.
ويضيف: "عادة ما يساعد العمل في موسم حصاد الحبوب عمال المياومة على توفير مدخرات مالية تساعدهم على مجابهة نفقات أشهر الخريف والشتاء وتكاليف العودة المدرسية لأبنائهم".
ويشكو عمال المياومة في الريف التونسي من نقص فرص العمل وتأثير العوامل المناخية في واقعهم المعيشي، حيث يزيد الجفاف في مستوى الفقر داخل هذه الفئة.
نصف مليون عامل
يقدَّر عدد العاملين في القطاع الزراعي بأكثر من نصف مليون، وفق بيانات غير رسمية، بينما تغيب الأرقام الرسمية في هذا الصدد.
ويقول عضو منظمة المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحة والصيد البحري (منظمة المزارعين) حمادي بوبكري، إن 27 بالمائة من القوى العاملة في تونس تشتغل في العمل الفلاحي، مؤكداً أن فرص العمل في القطاع تتأثر بالعوامل المناخية، متوقعاً أن تؤدي الخسائر في مزارع الحبوب إلى تراجع الطلب على اليد العاملة بنحو 80 بالمائة هذا العام.
وأكد البوبكري في تصريح لـ"العربي الجديد" أن أغلب مالكي المزارع المنتجة للحبوب يعتمدون على عمال المياومة لجمع المحاصيل، غير أن الجفاف سيؤدي إلى تعميم البطالة في الريف التونسي هذا العام، ولا سيما أن أغلب العاملين في المهن الزراعية لا يملكون مؤهلات أخرى تسمح لهم بالانتقال نحو أنشطة أخرى، حسب قوله.
ويخلق موسم حصاد الحبوب عادة حركة اقتصادية وتجارية، ويزيد نشاط النقل بين المحافظات، لأكثر من شهرين، وفق البوبكري، ما يساهم في خلق مواطن رزق لا تقل عن نصف مليون فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة.
ويؤكد عضو منظمة المزارعين تأثير التغيرات المناخية ونقص الأمطار في حياة الريفيين في تونس، مشيراً إلى أن هذه الفئة من بين الأكثر هشاشة في غياب تغطية اجتماعية شاملة للعاملين في القطاع الزراعي.
الفقر في الأرياف
كشفت بيانات رسمية لمعهد الإحصاء الحكومي انتشار الفقر واتساع رقعته في تونس ليبلغ 16.6 بالمائة عام 2021، في مقابل 15.2 بالمائة عام 2015، فيما حافظت نسبة الفقر المدقع على استقرارها في حدود 2.9 في المئة.
وفي تونس تتركّز معدلات الفقر الأعلى في الأرياف، ولا سيما تلك الواقعة في الشمال الغربي والجنوب الغربي، وغالباً ما يتخطى معدل الفقر 33 في المائة، حسب بيانات لمعهد الإحصاء الحكومي.
إضافةً إلى ذلك، تُظهر دراسات البطالة أن المناطق ذات معدلات الفقر المرتفعة تعاني أيضاً من معدلات البطالة الأعلى في البلاد، التي يمكن أن تبلغ 26 بالمائة في الشمال الغربي و21 بالمائة في الجنوب، مسجِّلةً بذلك فارقاً كبيراً مقارنةً بالمعدّل الوطني الذي يبلغ 15.3 بالمائة.
ويرى الخبير في التنمية، حاتم المليكي، أن المجتمع الفلاحي في تونس يترك لمصيره في زمن الأزمات ما يؤثر بمصير أكثر من 1.5 مليون تونسي يعملون في قطاعات مرتبطة بالنشاط الزراعي من مجموع 3.5 ملايين يسكنون الأرياف.
وأكد المليكي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن السلطات في تونس منشغلة بمشكل توريد الحبوب لتعويض نقص المحاصيل، غير أنها لا تبدي أي اهتمام بتداعيات الجفاف على آلة الإنتاج البشرية التي تتكون من 75 بالمائة من صغار الفلاحين والعمال الذين ليس لديهم أي قدرة على مواجهة تداعيات نقص الموارد المالية التي يخلفها ضعف المحاصيل.
وأشار خبير التنمية إلى أن الاقتصاديات المحلية مهددة بالركود بسبب نقص الأموال وفرص العمل في مناطق الجفاف، مؤكداً أن موسم إنتاج الحبوب يصنف من أكبر مواسم الفلاحة تشغيلية.
موجات نزوح
أضاف المليكي خلال حديثه لـ"العربي الجديد": "كل الأنشطة التجارية والاقتصادية ستتأثر بنقص المداخيل في الريف، مرجحاً أن تشهد تلك المناطق موجات نزوح لسكانها نحو المدن بحثاً عن فرص عمل توفر لهم الحد الأدنى من المداخيل لتلبية احتياجاتهم المعيشية".
وحذر المليكي من ارتدادات اجتماعية قاسية لتفشي البطالة في الريف التونسي بسبب التغيرات المناخية، مشدداً على ضرورة وضع سياسات حكومية لمساعدة هذه الفئات المتروكة إلى مصيرها حالياً.
وأخيراً، قال تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية "إسكوا" أن انتشار الفقر في تونس يختلف باختلاف المناطق والفئات الاجتماعية والاقتصادية، حيث لا تزال المناطق الريفية أكثر فقراً، لكونها تعاني من مستويات حرمان أعلى.
فعلى سبيل المثال، إن نسبة تعرض سكان الريف في تونس للفقر متعدد الأبعاد تفوق أكثر من ثلاثة أضعاف نسب تعرض سكان المناطق الحضرية، وذلك حسب معطيات التقرير.
ويظهر تفاقم الفوارق المناطقية أن الإصلاحات التي أطلقتها الحكومات منذ عام 2011 والاستراتيجيات التي طُبِّقت من خلال الخطة الإنمائية أخفقت في تحقيق العدالة الاجتماعية وتوليد الإنماء المتوازن بين المناطق.