في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الساعات الأولى من يوم الجمعة (بتوقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة) إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، ليسارع المستثمرون خلال التعاملات التي سبقت ساعات العمل الرسمية ببيع كميات كبيرة من الأسهم، الأمر الذي تسبب في انخفاض المؤشرات الرئيسية للأسهم الأميركية في تعاملات آخر أيام الأسبوع.
تذكر العالم مع إصابة ترامب أن هناك شيئاً اسمه "كورونا" ما زال موجوداً حولنا، رغم جهود القضاء عليه، وتعامل كثيرٌ من مستثمري الأسهم الأميركية على اعتبار أن إصابة الرئيس الأميركي بالوباء القاتل زادت من فرص فوز غريمه الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة المقرر لها الثالث من نوفمبر / تشرين الثاني القادم. ومع نجاح ترامب في تصوير منافسه في صورة الاشتراكي المتحمس لزيادة الضرائب على الشركات والمواطنين، المعادي لعمالقة التكنولوجيا، تذكرت الأسواق أن زيادة فرص فوز بايدن تعد خبراً سيئاً للأسواق، وهو ما أدى إلى اكتسائها باللون الأحمر.
ثم حدث العكس تماماً بعد أن أعلن ترامب يوم الأحد تحمسه للخروج من المستشفى يوم الاثنين، لتفتح الأسواق على ارتفاعات ملحوظة، قبل أن يعطيها جرعة إضافية من التفاؤل قبل نهاية تعاملات أول أيام الأسبوع، بتحديده موعد خروجه مساء نفس اليوم.
أوضحت تحركات أسعار الأسهم الأميركية التي ارتبطت بدخول وخروج ترامب من المستشفى الدرجة التي وصلت إليها من الاعتماد على "صحة الرئيس"، بعيداً عن أية مؤشرات أساسية أو فنية، وكأن دولة المؤسسات العريقة وأسواق الأسهم المتقدمة تحولت بقدرة قادر إلى بقعة في شرقنا الأوسط الجميل.
ومع تسليمنا بوجود تأثيرات قصيرة الأجل لوجود ترامب الحيوي، وتغير فرص فوزه في الانتخابات، على أسواق الأسهم الأميركية، لا يبدو أن الأمر نفسه سيستمر على المدى الطويل. وفي الوقت الذي يأمل فيه ملايين الأميركيين في استعادة النشاط الاقتصادي في بلادهم لقوته، وتبذل الإدارة الأميركية قصارى جهدها لتحسين الأوضاع الاقتصادية باعتبارها العامل الأكثر أهمية للناخب الأميركي، لا تبدو طريق الانتعاش في الوقت الحالي ممهدة، خاصة مع استمرار عدم التوافق بين الحزبين فيما يخص حجم وأوجه إنفاق حزمة الإنقاذ الجديدة التي طال انتظارها، والتي إن تم التوافق عليها، لا يتوقع لها أن تكون بالمبلغ الذي يمكنه إحداث انتعاشه طويلة المدى للاقتصاد.
ورغم ظهور علامات مع نهاية الأسبوع الماضي على قرب التوصل إلى اتفاق بشأن الحزمة الجديدة، لم تسفر المفاوضات الماراثونية عن شيء يقبله الطرفان ويرضي طموحات الملايين من أفراد الشعب الذين يعولون على إعانات الحكومة لتعوضهم عن فقدان وظائفهم، وتراجع فرص عثورهم على وظيفة جديدة في ظل حالة الركود التي ضربت اقتصاد البلاد منذ شهر مارس / آذار الماضي. ومساء الخميس، صوت مجلس النواب لصالح حزمة بقيمة 2.2 تريليون دولار، تقدم بها الحزب الديمقراطي، إلا أن عدم تحمس الجمهوريين لها قتل فرص تأييدها في مجلس الشيوخ الذي يسيطرون عليه.
وبعد انتهاء الفترة التي حددتها الحكومة الأميركية لتقديم إعانات البطالة السخية للعاطلين في الأسبوع الأخير من شهر يوليو / تموز الماضي، أظهر تقرير صادر عن وزارة التجارة الأميركية يوم الخميس الماضي تراجع الدخل الفردي في الولايات المتحدة خلال شهر أغسطس / آب بنسبة 2.7%. وقالت الوزارة إن 837 ألف أميركي تقدموا للمرة الأولى خلال الأسبوع الماضي للحصول على إعانات البطالة، وإن عدد من يحصلون على تلك الإعانات قد وصل حالياً إلى 12 مليون أميركي.
ويوم الجمعة الماضي، تلقت توقعات عودة الاقتصاد الأميركي إلى الانتعاش صدمة، بعد أن أظهرت بيانات مكتب العمل الأميركي أن الشركات الأميركية أضافت 661 ألف وظيفة جديدة خلال شهر سبتمبر / أيلول، رغم أن التوقعات كانت تتجاوز 800 ألف. ورغم انخفاض معدل البطالة خلال الشهر المنتهي لأقل من 8%، أحبطت البيانات الصادرة كثيرا من الاقتصاديين، بعد أن انخفض عدد الوظائف المضافة خلال الشهر عن مليون وظيفة للمرة الأولى منذ شهر أبريل / نيسان الماضي.
وفي الوقت الذي يَعوق فيه ارتفاعُ عددِ المتعطلين عودةَ الاقتصادِ إلى حالته التي كان عليها قبل ظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، مثلت بداية شهر أكتوبر / تشرين الأول الجاري انتهاء الفترة التي التزمت فيها الشركات الأميركية بعدم تسريح العاملين لديها مقابل حصولها على إعانات حكومية، الأمر الذي يعني أن مئات الآلاف من العاملين أصبحوا مرشحين للانضمام إلى طابور العاطلين في أي لحظة. وعلى نحو متصل، ورغم تجاوز الدين العام الأميركي 26 تريليون دولار للمرة الأولى في تاريخه، بعد اضطرار الحكومة الأميركية لاقتراض تريليونات الدولارات التي لم يكن مقرراً اقتراضها عند إعداد ميزانية العام المالي المنتهي بنهاية الشهر الماضي، لتمويل حزمة الإنقاذ الضخمة التي تم إقرارها مطلع الربع الثاني من العام تخفيفاً لتبعات الجائحة على الشركات والمواطنين الأميركيين، تؤكد الأرقام أن الاقتصاد الأميركي دخل الأزمة مطلع العام الحالي محملاً بمستويات غير مسبوقة من الدين، الأمر الذي يزيد من صعوبة الخروج من حالة الركود التي تمر بها البلاد حالياً.
وعلى مدار التاريخ، عانت الاقتصادات المثقلة بالديون من ضعف انتعاشها بعد أي أزمة، حيث يعمد المستهلكون والشركات عند توفر النقدية إلى تخفيض مديونياتهم بدلاً من زيادة إنفاقهم الاستهلاكي أو الرأسمالي اللذين تحتاجهما بشدة الاقتصادات المأزومة.
وبلغ إجمالي المديونية في الولايات المتحدة، وتشمل الدين الحكومي مضافاً إليه ديون الشركات والأفراد، أكثر من 64 تريليون دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ارتفاع أسعار الأسهم لا يعني أن الاقتصاد الأميركي تجاوز أزماته، والاقتصاد الحقيقي لأميركا يعاني بصورة واضحة، وعلى الأرجح ستستمر معاناته لأسابيع وربما شهور من العام القادم. ولحين التوصل إلى مصل يمنع الإصابة بالفيروس، ويساعد المواطنين على العودة لحياتهم وتنقلاتهم الطبيعية لا يمكن التحدث عن انتعاش بالمعنى الذي يرجوه ترامب ويطمع فيه الشعب الأميركي.